الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : والجروح قصاص يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها . ودل به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله : والجروح قصاص يقتضي أخذ المثل سواء ، ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص .

وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك ، منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس ، وقد بيناه في سورة البقرة ، وكذلك بين العبيد والأحرار .

ذكر الخلاف في ذلك : قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعي : " لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد ، ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني " .

وقال ابن شبرمة " تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان ، وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية " . وقال الحسن بن صالح : " إذا قطع أصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف أصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع ، ولا يقطع أصبع كف بأصبع كف أخرى ، وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس ، وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى ، ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى " .

قال أبو بكر : لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا ، لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قابله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به ، فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى : والعين بالعين إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني ، فغير جائز إذا كان كذلك أن يتعدى إلى غيره ، سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما ، ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه أن تكون [ ص: 96 ] يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل ؟ وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل ، وليست هذه الأعضاء مماثلة ، فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة ، وذلك لقوله تعالى : والجروح قصاص وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع ؛ وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضي بدون حقه .

واختلف في القصاص في العظم ، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : " لا قصاص في عظم ما خلا السن " . وقال الليث والشافعي مثل ذلك ، ولم يستثنيا السن . وقال ابن القاسم عن مالك : عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه ، وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة ، وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص " . وقال الأوزاعي : " ليس في المأمومة قصاص " . قال أبو بكر : لما اتفقوا على نفي القصاص في عظم الرأس كذلك سائر العظام ، وقال الله تعالى : والجروح قصاص وذلك غير ممكن في العظام . وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير : أنه اقتص من مأمومة ، فأنكر ذلك عليه ؛ ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس ؛ لأنه لا يوقف على مقدار جنايته ؛ فكذلك العظام . وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية