الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا طلع الفجر انقضت أوراد الليل ودخلت أوراد النهار فيقوم ويصلي ركعتي الفجر وهو المراد بقوله تعالى : ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ثم يقرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة إلى آخرها ، ثم يقول : وأنا أشهد بما شهد الله به لنفسه ، وشهدت به ملائكته ، وأولو العلم من خلقه ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله تعالى وديعة وأسأله ، حفظها حتى يتوفاني عليها اللهم احطط عني بها وزرا واجعلها ، لي عندك ذخرا ، واحفظها علي ، وتوفني عليها حتى ألقاك بها غير مبدل تبديلا " فهذا ترتيب الأوراد للعباد وقد كانوا يستحبون أن يجمعوا مع ذلك في كل يوم بين أربعة أمور : صوم ، وصدقة وإن قلت ، وعيادة مريض وشهود جنازة ففي الخبر : " من جمع بين هذه الأربع في يوم غفر له " وفي رواية : " دخل الجنة فإن أنفق " بعضها وعجز عن الآخر كان له أجر الجميع بحسب نيته وكانوا يكرهون أن ينقضي اليوم ولم يتصدقوا فيه بصدقة ولو بتمرة أو بصلة أو كسرة خبز لقوله صلى الله عليه وسلم : " الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس " ولقوله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " ودفعت عائشة رضي الله عنها إلى سائل عنبة واحدة فأخذها فنظر من كان عندها بعضهم إلى بعض فقالت : ما لكم إن فيها لمثاقيل ذر كثير وكانوا لا يستحبون رد السائل إذ كان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ما سأله أحد شيئا فقال لا ولكنه إن لم يقدر عليه سكت .

وفي الخبر : " يصبح ابن آدم وعلى كل سلامى من جسده صدقة يعني المفصل وفي : جسده ثلاثمائة وستون مفصلا : فأمرك بالمعروف صدقة ، ونهيك عن المنكر صدقة ، وحملك عن الضعيف صدقة ، وهدايتك إلى الطريق صدقة ، وإماطتك الأذى صدقة ، حتى ذكر التسبيح والتهليل ، ثم قال : وركعتا الضحى تأتي على ذلك كله أو تجمعن لك ، ذلك كله .

"

التالي السابق


( وإذا طلع [ ص: 168 ] الفجر انقضت أوراد الليل) الخمسة ( ودخلت أوقات النهار) فانظر هل دخلت في دخوله عليك في جملة العابدين أم خرج منك وأنت فيه من الغافلين؟! وتفكر أي لبسة ألبسك؛ فإن الليل جعل لباسا، هل لبست فيه حلة النور بتيقظك فتربح تجارة لن تبور أم ألبسك الليل بثوب ظلمته، فتكون ممن مات قلبه بموت جسده بغفلة؟ نعوذ بالله من سخطه وبعده .

( فيقوم ويصلي ركعتي الفجر) السنة ( وهو المراد بقوله تعالى: ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ثم يقرأ) العبد ( شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى آخرها، ثم يقول: وأنا أشهد بما شهد الله لنفسه، وشهدت به ملائكته، وأولو العلم من خلقه، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، أسأله حفظها حتى يتوفاني عليها) .

وتقدم أن أحمد وأبا الشيخ رويا من حديث ابن مسعود: "من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى قوله: الإسلام ثم قال: وأنا أشهد -إلى قوله: وديعة- جيء به يوم القيامة، فقيل: هذا عبدي عهد إلي عهدا، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة".

( اللهم احطط) أي: بتلك الشهادة ( عني وزرا، واجعل لي بها عندك ذخرا، واحفظها علي، وتوفني عليها حتى ألقاك غير مبدل تبديلا") هكذا نقله صاحب القوت .

( فهذا ترتيب الأوراد للعباد) في ليلهم ونهارهم، وأفضل ما عمله عبد في ورد من أوراد الليل والنهار بعد القيام بفرض يلزمه، أو قضاء حاجة لأخيه المؤمن يعينه عليها: الصلاة بتدبر الخطاب، وشهادة المخاطب؛ فإن ذلك يجمع العبادة كلها، ثم من بعد ذلك التلاوة بتيقظ وفراغ هم، ثم أي عمل فتح له فيه من فكر أو ذكر برقة قلب، وخشوع جوارح، ومشاهدة غيب، فذلك أفضل أعماله في وقته .

ومن فاته من الأوراد ينبغي له أن يفعل مثله في وقته أو قبله متى ذكره، لا على سبيل القضاء، ولكن على وجه التدارك ورياضة النفس بذلك؛ ليأخذها بالعزائم؛ كيلا يعتاد التراخي والرخص؛ ولأجل الخبر المأثور: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- رفعته: "من عبد الله عبادة ثم تركها ملالة مقته الله عز وجل".

( وقد كانوا يستحبون أن يجمعوا مع ذلك في كل يوم بين أربعة أمور: صوم، وصدقة وإن قلت، وعيادة مريض) إن تيسر ( وشهادة جنازة) إن حضرت ( وفي الخبر: "من جمع بين هذه الأربعة غفر الله له") روى البيهقي من حديث ابن عمر: "من صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وتصدق بما قل أو كثر، غفر الله له ذنوبه، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ( وفي رواية: "دخل الجنة") .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".

قلت: وروى الطبراني في الكبير، وأبو سعد السمان في مشيخته من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-: "من صلى يوم الجمعة، وصام يومه، وعاد مريضا، وشهد جنازة، وشهد نكاحا، وجبت له الجنة".

( وإن اتفق بعضها وعجز عن الآخر كان له أجر الجميع بحسب نيته) وذلك إن كان في عزيمته بين الأربعة المذكورة ( وكانوا يكرهون أن ينقضي اليوم ولم يتصدقوا ولو بتمرة) ولو بنصفها ( أو بصلة أو كسرة خبز) أو ما يجري مجرى ذلك ( لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس") تقدم في الزكاة ( ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة") تقدم أيضا في الزكاة ( ودفعت عائشة -رضي الله عنها- إلى سائل عنبة واحدة فأخذها) السائل ( ونظر بعض الحاضرين إلى بعض) أي: كالمستقل بتلك الصدقة ( فقالت: ما لكم) ينظر بعضكم بعضا ( إن فيها لمثاقيل ذر كثيرة) نقله صاحب القوت والعوارف، وتقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب فإن الله -عز وجل- يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى يكون مثل الجبل".

( وكانوا يكرهون رد السائل) بلا إعطاء شيء ( إذ كان من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ما سأله أحد شيئا فقال لا) وقد أشار بعض محبي حضرته الشريفة إلى ذلك بقوله:


ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم

( لكنه -صلى الله عليه وسلم- إن لم يقدر على شيء يعطيه) إياه ( سكت) ولم يرده. قال العراقي: رواه مسلم من حديث جابر.

وللبزار من حديث أنس: "أو سكت" .

( وفي الخبر: "يصبح ابن آدم وعلى كل سلامى من جسده صدقة -يعني: كل [ ص: 169 ] مفصل- وفي جسده ثلاثمائة وستون مفصلا: فأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وحملك عن الضعيف صدقة، وهدايتك إلى الطريق صدقة، وإماطتك الأذى صدقة، حتى ذكر التسبيح والتهليل، ثم قال: وركعتا الضحى تأتي على ذلك كله، ويجمعن ذلك كله") رواه مسلم من حديث أبي ذر، ولفظه: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما في الضحى" وهكذا رواه الحاكم وأبو عوانة وابن خزيمة.

وروى مسلم أيضا من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: "أنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما من طريق الناس، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" ورواه هكذا أبو الشيخ في العظمة .

وروى أبو داود، وابن حبان من حديث بريدة -رضي الله عنه- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة، قالوا: فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: في النخامة في المسجد يدفنها، أو الشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنك".

وقد أخرج أبو داود حديث أبي ذر بألفاظ مختلفة .

والكلام على هذا من وجوه:

*الأول: السلامى كحبارى أصلها عظام الأصابع وسائر الكف خاصة، ثم استعملت في جميع عظام البدن ومفاصله، وهو المراد في الحديث. وقيل: السلامى: كل عظم مجوف من صغار العظام .

والمفصل: كمجلس كل ملتقى عظمتين من الجسد، وأما كمنبر فهو اللسان وليس مرادا هنا، بل المراد السلامى، وهذا معنى قول المصنف: يعني كل مفصل .

*الثاني: قوله: "على كل سلامى صدقة" أي: على سبيل الاستحباب المتأكد، لا على سبيل الوجوب، وهذه العبارة تستعمل في المستحب، كما تستعمل في الوجوب .

*الثالث: إن قلت: قد عد في الحديث من الحسنات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما فرضا كفاية، فكيف أجزأ عنهما ركعتا الضحى، وهما تطوع؟ وكيف أسقط هذا التطوع ذلك الفرض؟

قلت: المراد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قام الفرض بغيره، وحصل المقصود، وكان كلامه زيادة تأكيد، أو المراد: تعليم المعروف ليفعل، والمنكر ليجتنب؛ فإذا فعلها كان من جملة الحسنات المعدودة من الثلاثمائة والستين، وإن تركه لم يكن عليه فيه حرج، ويقوم عنه وعن غيره من الحسنات ركعتا الضحى، أما إذا ترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر عند فعله ولم يقم به غيره فقد أثم، ولا يرفع الإثم عنه ركعتا الضحى، ولا غيرهما من التطوعات ولا من الواجبات .

*الرابع: فيه فضل عظيم لصلاة الضحى؛ لما دل عليه من أنها تقاوم ثلاثمائة وستين سنة وهذا أبلغ شيء في فضل صلاة الضحى، ذكره ابن عبد البر، وذكر أصحاب الشافعي أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح، كما تقدم في كتاب الصلاة .

وهل يختص ذلك بصلاة الضحى لخصوصية فيها وسر لا يعلمه إلا الله، أو يقوم مقامهما ركعتان في أي وقت كان فإن الصلاة عمل بجميع الجسد، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه؟

فيه احتمال، والظاهر الأول، وإلا لم يكن للتنبيه معنى، والله أعلم .

*الخامس: فيه أن أقل الضحى ركعتان، وهو كذلك بالإجماع، وإن اختلفوا في أكثرها، فحكى النووي في شرح المهذب عن أكثر الأصحاب أن أكثرها ثمان، وهو مذهب الحنابلة، كما ذكره في المغني .

وجزم الرافعي في الشرح الصغير والمحرر، والنووي في الروضة والمنهاج، تبعا للروياني، بأن أكثرها ثنتا عشرة ركعة .

وقال النووي في شرح مسلم: أكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات أو ست ركعات، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا في كتاب الصلاة .




الخدمات العلمية