الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشرة : وبأنه ضحى عن أمته ، وليس لأحد بأن يضحي عن أحد بغير إذنه .

                                                                                                                                                                                                                              روى الحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذبح كبشا أقرن بالمصلى ثم قال : "اللهم ، هذا عني وعن من لم يضح من أمتي" .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة عشرة : وبأن له أن يقضي بعلم نفسه ، ولو في الحدود وفي غيره خلاف .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن هند بنت عتبة قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل مسيك ، فهل علي من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ؟ فقال : "لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف" .

                                                                                                                                                                                                                              وجه الدلالة منه : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطالبها بالبينة على الزوجية ، لأنه علم أنها زوجته ، فحكم بأخذ النفقة من ماله بالمعروف .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا هو القضاء بالعلم ، ذكر ذلك البخاري وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة عشرة : وبأن يحكم بغير دعوى ، ولا يجوز ذلك لغيره .

                                                                                                                                                                                                                              قاله ابن دحية ، واستدل بما روى مسلم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا كان يتهم بأم إبراهيم ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي : "اذهب فاضرب عنقه" ، فأتاه علي ، فإذا هو في ركن يتبرد فيها ، فقال له ، علي : اخرج ، فناوله يده فأخرجه ، فإذا هو مجبوب ، ليس له ذكر فكف علي عنه ، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله! إنه لمجبوب ما له ذكر .

                                                                                                                                                                                                                              وقد ورد تسمية هذا مأثورا ، والذي كان يتهم بها مارية فقال الناس : علج يدخل على علجة ، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا بقتله . [ ص: 432 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال الحضيري : والاستدلال به على ما ادعاه غير مسلم فإن الحديث قد استشكله جماعة من العلماء ، حتى قال ابن جرير : يجوز أن يكون المذكور من أهل العهد ، وفي عهده أن لا يدخل على مارية ، فقال : ودخل عليها ، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتله لنقض عهده .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي تبعا للقاضي : قيل لعله كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر ، وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا ، وكف عنه علي اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا ، وفيه نظر أيضا ، لأنا نعتبر نفي ظن الزنا من مارية ، فإنه لو أمر بقتله بذلك ، لأمر بإقامة الحد عليها أيضا ، ولم يقع ذلك معاذ الله أن يختلج ذلك في خاطره أو يتفوه به .

                                                                                                                                                                                                                              وأحسن ما يقال في الجواب عن هذا الحديث ، ما أشار إليه أبو محمد بن حزم في "الإيصال إلى فهم كتاب الخصال" ، فإنه قال : من ظن أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتله حقيقة بغير بينة ولا إقرار فقد جهل ، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه بريء مما نسب إليه ورمي به ، وأن الذي ينسب إليه كذب ، فأراد -صلى الله عليه وسلم- إظهار الناس على براءته يوقفهم على ذلك مشاهدة ، فبعث عليا ومن معه فشاهدوه مجبوبا- أي مقطوع الذكر- فلم يمكنه قتله لبراءته مما نسب إليه ، وجعل هذا نظير قصة سليمان في حكمه بين المرأتين المختلفتين في الولد ، فطلب السكين ليشقه نصفين إلهاما ، ولظهور الحق ، وهذا حسن . انتهى كلام الحضيري .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة عشرة : وبأن له أن يحكم لنفسه .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة عشرة : ولفرعه .

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة عشرة : ويشهد لنفسه .

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة عشرة : ولفرعه .

                                                                                                                                                                                                                              العشرون : وبقبول شهادة من شهد له [كشهادة خزيمة] .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية والعشرون : وبالهدية بخلاف غيره من الحكام ، لأنه والأنبياء -صلى الله عليه وسلم- أجمعين معصومون ، لا يجوز عليهم أن يحكموا بالهوى ، وإنما منع الحاكم من الحكم لنفسه ولولده ، لأنه يجوز عليه الهوى ، فمنع من ذلك ، والمعصوم- عليه السلام- لا يجوز عليه ذلك فجاز له ، ولأن الهدية إنما حرمت على الحكام خوفا عليهم من الزيغ في الشريعة .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية والعشرون : وبعدم كراهة الحكم والفتوى حال الغضب ، لأنه لا يخاف عليه من الغضب ما يخاف علينا .

                                                                                                                                                                                                                              ذكره النووي في شرح مسلم عند حديث اللقطة ، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أفتى فيه ، وقد غضب حتى احمرت وجنتاه . [ ص: 433 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة والعشرون : وبأن له أن يقتل من سبه أو هجاه ، قاله ابن سبع ، وذلك راجع إلى القضاء لنفسه .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة والعشرون : وبأن له أن يحمي الموات لنفسه ، مع أنه لم يقع ذلك منه ، وليس لغيره من بعده أن يحموا لأنفسهم .

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري عن الصعب بن جثامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "لا حمى إلا لله ولرسوله" .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة والعشرون : وبأنه لا ينقض ما حماه -صلى الله عليه وسلم- ومن أخذ شيئا مما حماه ضمن قيمته في الأصح بخلاف ما حماه غيره من الأئمة لو رعاه ذو قوة فلا غرم عليه .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة والعشرون : وبأن له أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج إليهما ، وعليه البذل ويفدي بمهجته مهجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله- سبحانه وتعالى- : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم [الأحزاب - 6] .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة والعشرون : وبأن لو قصده ظالم لوجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه نقله في زوائد الروضة عنالفوراني وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              قال الجلال البلقيني : وهذا المتعقب ، فإن قاصد نفسه كافر والكافر يجب دفعه عن كل مسلم ، فلا خصوصية حينئذ قال الحضري : وهذا صحيح بالنسبة إلى قاصده فقط ، لكن يدعى الخصوصية في ذلك من جهتين أخريين .

                                                                                                                                                                                                                              إحداهما : أنه يجب بذل النفس في الدفع عنه -صلى الله عليه وسلم- مع الخوف على النفس ، بخلاف غيره من الأمة ، فإنه لا يجب الدفع مع الخوف كما قرره الرافعي والنووي في كتاب الصيد .

                                                                                                                                                                                                                              والجهة الثانية : من الخصوصية : أن قاصد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلما لا يكفر ، ولو وجب الدفع ، وقاصده -صلى الله عليه وسلم- يكفر بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة والعشرون : وبأن له القتل بعد الأمان قاله ابن القاص فيما نقله الإمام الرافعي وغيرهما عنه وخطأه وقال ابن الرفعة فيما نقله الزركشي عنه هذا النقل فيه خلل ، والذي في التلخيص كان يجوز له القتل في الحرم بعد إعطائه الأمان .

                                                                                                                                                                                                                              قال وهذا لا يطابق ما حكي عنه ، لأن ذلك ينصرف بإطلاقه إلى جواز قتل من أمنه وهذا بظاهره يعطي أنه إذا قال : من دخل الحرم فهو آمن ، فدخل شخص الحرم وكان ثم سبب يقتضي قتله ، أبيح له قتله .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال ابن الملقن : إنه رآه كذلك في التلخيص فظهر بهذا أن ابن القاص قصد قصة عبد الله بن خطل . [ ص: 434 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : يا رسول الله ، ابن خطل معلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه .

                                                                                                                                                                                                                              فابن القاص-رحمه الله تعالى- معذور ، فإنه لما رأى حديث الأمان في دخول المسجد وحده ، رأى في هذا الحديث الأمر بقتل ابن خطل بسط هذه الخصوصية ، وهذا نهاية أمر الفقيه جمعا بين الأحاديث ، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمن الناس استثنى ابن أخطل وغيره ، كما سبق في غزوة الفتح .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية