الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآفة الثالثة وهي دون الأولى والثانية أن يكون الأهل والولد شاغلا له عن الله تعالى وجاذبا له إلى طلب الدنيا وحسن تدبير المعيشة للأولاد بكثرة جمع المال وادخاره لهم وطلب التفاخر والتكاثر بهم وكل ما شغل عن الله من أهل ومال وولد فهو مشئوم على صاحبه ولست أعني بهذا أن يدعو إلى محظور فإن ذلك مما اندرج تحت الآفة الأولى والثانية بل أن يدعوه إلى التنعم بالمباح بل إلى الإغراق في ملاعبة النساء ومؤانستهن والإمعان في التمتع بهن ويثور من النكاح أنواع من الشواغل من هذا الجنس تستغرق القلب فينقضي الليل والنهار ولا يتفرغ المرء فيهما للتفكر في الآخرة والاستعداد لها ولذلك قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : من تعود أفخاذ النساء لم يجئ منه شيء .

وقال أبو سليمان رحمه الله من تزوج فقد ركن إلى الدنيا أي يدعوه : ذلك إلى الركون إلى الدنيا فهذه مجامع الآفات والفوائد فالحكم على شخص واحد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقا قصور عن الإحاطة بمجامع هذه الأمور بل تتخذ هذه الفوائد والآفات معتبرا ومحكما ويعرض المريد عليه نفسه فإن انتفت في حقه الآفات واجتمعت الفوائد بأن كان له مال حلال وخلق حسن وجد في الدين تام لا يشغله النكاح عن الله وهو مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل والتحصن بالعشيرة فلا يماري في أن النكاح أفضل له مع ما فيه من السعي في تحصيل الولد

التالي السابق


الآفة الثالثة: (وهي دون الأولى والثانية أن يكون الأهل والولد شاغلا) له (عن الله تعالى وجاذبا إلى طلب الدنيا) من المال والمتاع والذخيرة ونحوها (و) إلى (تدبير حسن المعيشة للأولاد بكثرة جمع المال وادخاره لهم) لقضاء مآربهم في الحال والمآل (و) إلى (طلب التفاخر والتكاثر بهم) في المحافل (و) لا يستريب [ ص: 320 ] العاقل أن (كل ما شغل عن الله) أي: ذكره أو عن طلب معرفته (من أهل ومال وولد فهو شؤم على صاحبه) ، وهو من كلام أبي سليمان الداراني كما تقدم (ولست أعني بهذا أن يدعوه إلى محظور) شرعي، (فإن ذلك مما اندرج تحت الآفة الأولى والثانية بل) أعني به (أن يدعو إلى التنعم بالمباح) الذي ليس من شأن أهل الآخرة (بل) يدعوه (إلى الإغراق) أي المبالغة والاستيفاء (في ملاعبته النساء) ومداعبتهن (ومؤانستهن) ومحادثتهن (والإمعان في التمتع بهن) والإمعان المبالغة والاستقصاء في الشيء والتمتع التلذذ (وتثور من النكاح) أي: تحدث وترتفع (أنواع من الشواغل الملهية من هذا الجنس) والنوع (فيستغرق القلب) أي: يعمه (فينقضي الليل والنهار) على هذا الاستغراق في تلك الشواغل وتحدث منه في كل ساعة استغراقات متعددة، (ولا يتفرغ المرء فيها) أي في الليل والنهار (للفكر في) أمور (الآخرة) أصلا (و) لا في (الاستعداد لها) من الأعمال الصالحة والتجارات الرابحة ، (ولذلك قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: من تعود أفخاذ النساء) إشارة إلى كثرة المضاجعة (لم يجئ منه شيء) نقله صاحب "القوت " أي: لم يرج له الترقي إلى مقام كمال أصلا، ومن هنا قولهم: ذبح العلم بين أفخاذ النساء فإن من انتبه للذة أفخاذهن استولين على قلبه فلا يزال مقهقرا وراءه حتى يهلك ، وذكر السخاوي في تاريخه في ترجمة ابن الشحنة ما معناه: من تعود لحن النساء لم يجئ منه شيء .

(وقال أبو سليمان) الداراني رحمه الله تعالى: (من تزوج) أو سافر أو كتب الحديث (فقد ركن إلى الدنيا) تقدم هذا القول قريبا. وفي كتاب العلم أيضا (أي: يدعو ذلك إلى الركون إلى الدنيا) أي: ولو لم يركن إليها في الحال ، ولكن من شأن تلك الأوصاف المذكورات تجر إلى الدنيا ولو في آخر نفس وهذا مشاهد، فإن الرجل لم يزل في سكون وسلامة حتى إذا تزوج وفتح على نفسه الباب فلا يكاد يفي بخرجه دخله فلا محالة يميل إلى تحصيل الدنيا ويركن إليها من كل وجه ، وكذلك المسافرة للتجارات وطلب الحديث لغير الله عز وجل فكل هؤلاء أسباب للركون، (فهذه مجامع الآفات والفوائد) فصلناها لك تفصيلا. (فالحكم على شخص واحد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبية مطلقا قصور عن الإحاطة بجامع هذه الأمور) وما فيها من القول والرد ، (بل تتخذ هذه الفوائد والآفات معتبرا) أي: محلا للاعتبار (ومحكا) وهو الحجر الذي يسن عليه الحديد هذا هو الأصل، (ويعرض المريد عليه نفسه) ويحكها عليه (فإن انتفت في حقه الآفات) المذكورة (واجتمعت الفوائد) المسطورة (بأن كان له مال حلال) لم يحوجه إلى كسب حرام وقناعة (وخلق حسن) يملك به نفسه (وجسد في الدين تام) بحيث (لا يشغله النكاح عن الله تعالى) أي: إتيان مأموراته واجتناب منهياته (وهو) مع ذلك (شاب) مغتلم (يحتاج إلى تسكين الشهوة) وإطفاء الثائرة (ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل) من طبخ وغرف وكنس وغسل (و) يحتاج في إقامة ناموسه إلى (التحصن بالعشيرة) وكثرة المعارف (فلا يتمارى) أي: لا يشك (في أن النكاح أفضل له مع ما فيه) فوق ذلك (من السعي في تحصيل الولد) الذي به تتم له الحياة الدنيوية والأخروية .




الخدمات العلمية