الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا كانت الدار بين ثلاثة رجال ، إلا موضع بئر ، أو طريق فيها فباع الشريك في الجميع نصيبه من جميع الدار ، فالشريك الذي له في جميع الدار نصيب أحق من الآخر الذي له في بعض الدار نصيب ; لأن شركته أعم ، وقد بينا أن من يكون أقوى سببا ، فهو مقدم في الاستحقاق ; ولأن الموضع الذي هو مشترك بين البائع وبينه لا حق للثالث فيه ، وهو موضع البئر ، أو الطريق لا بد أن يكون هو أحق في ذلك الموضع بالأخذ بالشفعة ، وذلك في حكم شيء واحد ، فإذا صار أحدهم أحق بالتبعيض كان أحق بالجميع وإن اختلفا البائع ، والمشتري ، والشفيع في الثمن قبل نقد الثمن ، والدار مقبوضة ، أو غير مقبوضة ، فالقول قول البائع في الثمن ويثبت حكم التحالف بين البائع ، والمشتري بالنص وللشفيع أن يأخذ بما قال البائع إن شاء ; لأن الشرع لما جعل القول قول البائع ظهر مقدار الثمن في حقه بخبره ، وإنما لم يظهر في إلزام المشتري ، وليس في جانب الشفيع إلزام ، بل هو مخير فيأخذه بما قال البائع إن شاء ، وإن كانت الدار في يد المشتري ، فقال البائع : بعتها بألف درهم واستوفيت الثمن وقال المشتري اشتريتها بألفين فللشفيع أن يأخذ بألف درهم ولو قال [ ص: 107 ] البائع بعتها إياه واستوفيت الثمن ، وهو ألف درهم وقال المشتري اشتريتها بألفين ونقدته الثمن لم يأخذها الشفيع ، إلا بألفين ; لأن حكم البيع في حق البائع ينتهي بوصول الثمن إليه ، فإذا بدأ فأقر بجميع قبض الثمن قبل أن يبين مقداره ، فقد انتهى حكم العقد في حقه وصار هو كأجنبي آخر ، فلا قول له بعد ذلك في بيان مقدار الثمن وبقي الاختلاف بين الشفيع ، والمشتري ، فيكون القول قول المشتري

فأما إذا بدأ ببيان مقدار الثمن قبل أن يقر بقبضه ، فقد ظهر أن الثمن ذلك القدر بخبره ; لأن الشرع جعل القول قوله ما لم يصل إليه الثمن وثبت للشفيع حق الأخذ بذلك الثمن ، فلا يبطل ذلك عليه بإقرار البائع بقبض الثمن بعد ذلك ، وهو نظير ما لو قال الوصي استوفيت جميع ما للميت على غريمه فلان ، وهو ألف درهم وقال الغريم ، بل كان علي ألف درهم ، وقد أوفيتك جميع ذلك ، فالوصي ضامن للألفين ، ولا شيء له على الغريم ولو قال : استوفيت من الغريم ألف درهم ، وهو جميع مال الميت عليه ، فقال فلان : كان علي ألفا درهم ، وقد أوفيتك الكل فللوصي أن يرجع عليه بألف أخرى ، والفرق ما بينا وفرع أبو يوسف رحمه الله في الأمالي على هذا ، فقال : لو كانت الدار في يد البائع ، فقال : بعتها إياه بألف درهم واستوفيت الثمن وأخذها الشفيع من يده بألف ، فالمشتري على حجته فيما بينه وبين البائع يرجع عليه بألفين إن أثبت أن الثمن ألفا درهم ، وهو صحيح ; لأن البيع انفسخ فيما بين البائع ، والمشتري فيرجع بما أوفاه من الثمن ولو قال البائع بعتها بألفين ولم أنقد ، إلا ألف درهم ولم يأخذها المشتري ، ولا الشفيع ، إلا بألفين ; لأن القول في إثبات مقدار الثمن قول البائع ما لم يصل إليه كمال الثمن وإذا كان البيع بألف درهم فحط البائع عن المشتري تسعمائة فللشفيع أن يأخذها بمائة درهم عندنا وعند الشافعي لا يأخذها ، إلا بالألف وأصل المسألة في كتاب البيوع أن الزيادة ، والحط في بعض الثمن يثبت على سبيل الالتحاق بأصل العقد عندنا وعند الشافعي هو بمنزلة الهبة المبتدأة ، فإذا كان عندنا الحط يلتحق بأصل العقد ، فالمحطوط خرج من أن يكون ثمنا ، وإنما ثمن الدار ما بقي فيأخذه الشفيع بذلك ولو كان الشفيع أخذها بألف ، ثم حط البائع عن المشتري تسعمائة ، فإنه ينحط ذلك القدر عن الشفيع أيضا حتى يرجع بذلك القدر على المشتري ; لأنه ظهر منه أنه أخذ منه فوق حقه

وعلى هذا قالوا لو أخبر أن الثمن ألف درهم فسلم الشفعة ، ثم حط البائع عن المشتري مائة ، فهو على شفعته ; لأن المحطوط خرج من أن يكون ثمنا ، فهو بمنزلة ما لو تبين أن الثمن كان أقل من ألف ولو وهب البائع الثمن كله للمشتري قبل [ ص: 108 ] قبضه ، أو بعده لم يحط المشتري عن الشفيع شيئا ; لأن هبة جميع الثمن لا تلتحق بأصل العقد ، فإن التحاق الحط بأصل العقد ; ليدفع العين ويعتبر صفة العقد فيه ; ليصير عدلا بعد أن كان رابحا ، أو خاسرا ، وهذا لا يتحقق في هبة جميع الثمن ; لأن الإنسان لا يصير مغبونا بجميع الثمن ، فعرفنا أنه مبتدأ يوضحه إن حط جميع الثمن لو التحق بأصل العقد فإما أن يصير العقد هبة ، ولا شفعة للشفيع في الهبة ، أو يصير بيعا بغير ثمن ، فيكون فاسدا ، ولا شفعة في البيع الفاسد ، فعرفنا أنه لا يمكن إلحاق الجميع بأصل العقد في حق الشفيع بخلاف حط البعض ، فإن زاد البائع المشتري في الثمن زيادة بعد العقد أخذ الشفيع الدار بالثمن الأول ; لأنه قد استحق أخذها بالثمن الأول قبل الزيادة ، والمشتري لا يملك إبطال الحق الثابت له ، فلا يملك غيره أيضا يوضحه أن بهذه الزيادة يلزم نفسه شيئا للبائع ويلزم الشفيع مثل ذلك وله الولاية على نفسه دون الشفيع فيعمل التزامه في حقه ، ولا يعمل في حق الشفيع ألا ترى أنه لو وجد بيعا مع البائع بأكثر من الثمن الأول صح ذلك في حقه وكان للشفيع أن يأخذ بالثمن الأول ، فقد فرق بين الزيادة ، والحط في حق الشفيع وسوى بينهما في بيع المرابحة غير مستحق على المشتري فليس في التزامه الزيادة في حكم بيع المرابحة إبطال حق مستحق عليه بخلاف الشفعة

ولو باعها المشتري من آخر بثمن أكثر من الثمن الأول كان للشفيع الخيار ; لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت حق الآخذ له بالشفعة ، فإن اختار الأخذ بالشراء الثاني يأخذها من يد المشتري الثاني ، ولا يشترط حضرة المشتري الأول ، وإن اختار الأخذ بالثمن الأول بحكم الشراء الأول كان ذلك له ; لأن المشتري الأول يتمكن من إبطال حق الشفيع بتصرفه وإذا أخذها بالشراء الأول دفع الثمن إلى المشتري الأول وعهدته عليه ويرجع المشتري الثاني على المشتري الأول ، وإنما أوفاه من الثمن ; لأن البيع الثاني قد انفسخ ، فإن الشفيع أخذها بحق مقدم على البيع الثاني ولم يشترط حضرة المشتري الأول إذا أراد أخذها بالثمن الأول في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يشترط ، وكذلك لو كان المشتري وهبها من إنسان ، ثم حضر الشفيع ، فلا خصومة بينه وبين الموهوب له في قول أبي حنيفة ومحمد حتى يحضر المشتري وعند أبي يوسف هو خصم ; لأنه يدعي حقه في العين الذي يزعم ذو اليد أنه ملكه ، فيكون هو خصما له في ذلك كما إذا ادعى ملك العين لنفسه وهما يقولان الشفيع لا يدعي حقا على الموهوب له ، ولا في ملكه ، وإنما يدعي حقه على المشتري الأول [ ص: 109 ] في ملكه فما لم يعد ملكه لا يتبين محل حقه ، وإنما يعود ملكه إذا انفسخ العقد الثاني وفسخ العقد عليه لا يجوز ، إلا بحضرته وتمام بيان هذه المسألة في المأذون ، وكذلك لو تصرف المشتري في الدار تصرفا آخر بأن رهنها ، أو تزوج عليها فللشفيع أن يبطل ذلك كله ويأخذها بالشفعة الأولى ، وليس لأحد من هؤلاء على الشفيع شيء من الثمن إنما الثمن للمشتري الأول ، ولا يأخذ الشفيع الدار حتى ينقد الثمن كما لا يأخذ المشتري الدار من البائع حتى ينقده ثمنها ، ثم قد يبطل الرهن ، والهبة بالاستحقاق وترجع المرأة على الزوج بقيمة الدار ; لأن المسمى من الصداق قد استحق

فإذا اشترى الرجل شقصا من دار فقاسم شريكه بحكم ، أو بغير حكم ، ثم حضر الشفيع كان له أن يأخذ ما أصاب المشتري بالقسمة ، أو يتركه ، وليس له فسخ القسمة ; لأن القسمة من تتمة القبض ، فالمقصود من القبض الحيازة وتمام الحيازة تكون بالقسمة ، وليس للشفيع أن ينقض قبل المشتري فكذلك لا يكون له أن ينقض قسمته ; ولأنه لو نقض القسمة احتاج إلى إعادتها في الحال ; لأن البائع مطالب بالقسمة ، ولا يشتغل بنقض شيء يحتاج إلى إعادته في الحال وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه قال : هذا إذا قسم بأمر القاضي ، فإن كانت القسمة بينهما بالتراضي فللشفيع أن ينقض تلك القسمة ; لأن في القسمة بالتراضي معنى المبادلة ، فهي كتصرف آخر من المشتري فللشفيع أن ينقضه ، وقد يفيده هذا النقض فربما يقع نصيبه في القسمة الثانية فيما يجاوز ملكه ، فأما إذا كان القاضي هو الذي قسم فليس في هذه القسمة معنى المبادلة ، ولكنه تعين المبيع بقضاء القاضي ، وهو ما سلمه إلى المشتري فيأخذ الشفيع ذلك من يده إن شاء ، وإن شاء ترك .

التالي السابق


الخدمات العلمية