الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا كان للدار شفيعان فسلم أحدهما لم يكن للآخر ، إلا أن يأخذها كلها ، أو يدعها ; لأن مزاحمة المسلم قد زالت فكأنه لم يكن الشفيع في حقه ، إلا واحدا [ ص: 104 ] ، وليس للشفيع أن يأخذ البعض دون البعض ; لما في الأخذ من تفريق الصفقة ، والإضرار بالمشتري في تبعيض الملك عليه ، والشفيع بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه ، فلا يتمكن من الأخذ على وجه يكون فيه إلحاق الضرر بغيره ، ثم حق كل واحد من الشفيعين ثابت في جميع المبيع لتكامل العلة في حق كل واحد منهما ، إلا أنهما إذا طلبا قضى القاضي لكل واحد منهما بالنصف للمزاحمة ونفي الضيق في المحل ، فإذا سلم أحدهما قبل القضاء بقي حق الآخر في الكل كما لو قتل رجلين عمدا فعفا عنه ولي أحدهما كان للآخر أن يقتص منه لهذا المعنى . وإذا كان البائع اثنين في صفقة واحدة ، والمشتري واحدا لم يكن للشفيع أن يأخذ بعضها دون بعض ، وإن كان البائع واحدا ، والمشتري اثنين فله أن يأخذ حصة أحدهما دون الآخر ; لأنه يأخذ ملك المشتري بالشفعة فإن كان المشتري واحدا لو تمكن من أخذ البعض تضرر به المشتري من حيث إنه يتبعض عليه المال وإذا كان المشتري اثنين ، فإنما ملك كل واحد منهما النصف ، وليس في أخذ الشفيع نصيب أحدهما إضرار بالآخر يوضحه أن أخذه لدفع ضرر الجار الحادث وبأخذ البعض عند اتحاد المشتري لا يندفع ضرر مجاورته ، فعرفنا أنه لم يقصد ، إلا الإضرار به .

وإن كان المشتري اثنين ، فقد يكون أحدهما ممن ينتفع بجواره ، والآخر ممن يتضرر بجواره ، فهو يقصد دفع ضرر جار السوء بأخذ نصيب أحدهما وروى الحسن عن أبي حنيفة قال إذا كان البائع اثنين فأراد الشفيع الأخذ قبل قبض المشتري فله أن يأخذ نصيب أحد البائعين ; لأنه بالأخذ يتملك على البائع ; ولهذا كانت عهدته على البائع ، والملك في حق البائعين متفرق وبعد القبض إنما يتملك على المشتري ، والملك في حقه مجتمع ، وإن كان البائع واحدا ، والمشتري اثنين فقبل القبض ليس له أن يأخذ نصيب أحد المشتريين لاجتماع الملك في حق البائع وبعد القبض له ذلك ، ولكن هذا قوله الأول ، فأما قوله الآخر كما ذكر في الكتاب ، فإن المعتبر جانب المشتري قبل القبض وبعد القبض ويستوي إن كان اشتراه لنفسه ، أو لغيره فسره هشام عن محمد أن الواحد إذا اشترى دار الرجلين فليس للشفيع أن يأخذ نصيب أحد الأمرين ولو اشترى رجلان لواحد كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة النصف ; لأن المشتري اثنان ، والعاقد لغيره في باب الشراء بمنزلة العاقد لنفسه في أحكام العقد ، وإن كان البائع اثنين ، والمشتري واحدا فطلب نصيب أحد البائعين لم تبطل بذلك شفعته وله أن يأخذها كلها مقسومة كانت أو غير مقسومة ; لأنه ما أعرض عن الطلب ، ولكنه أظهر الطلب ، والرغبة ، ثم اشتغل بتقسيم لم [ ص: 105 ] يجعل الشرع له ذلك فيبطل تقسيمه ويبقى حقه في جميع الدار ويأخذه إن شاء ولو أخبر الشفيع أن المشتري فلان ، فقال : قد سلمت له ، فإذا المشتري غيره ، فهو على شفعته ; لما بينا أن الناس يتفاوتون في المجاورة فرضاه بمجاورة إنسان لا يكون رضا منه بمجاورة غيره وهذا التقيد منه مفيد كأنه قال : إن كان المشتري فلانا ، فقد سلمت الشفعة

فإذا تبين أن المشتري غيره ، فهو على حقه ، وإن تبين أنه اشتراه فلان وآخر معه صح تسليمه في نصيب فلان ، وهو على شفعته في نصيب الآخر ; لأنه رضي بمجاورة أحدهما ، فلا يكون ذلك منه رضا بمجاورة الآخر ، والبعض معتبر بالكل ولو أخبر أن الثمن بألف درهم فسلم الشفعة ، فإن كان أكثر من ألف فتسليمه صحيح ، وإن كان أقل فله الشفعة عندنا وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له في الوجهين ; لأنه أسقط حقه بعد ما وجبت له الشفعة ورضي بمجاورة هذا المشتري ، فلا يكون له أن يأتي ذلك بعد الرضا به ، ولكنا نقول إنما أسقط حقه بشرط أن يكون الثمن ألف درهم ; لأنه بنى تسليمه على ما أخبر به ، والخطاب السابق كالمعاد فيما بني عليه من الجواب فكأنه قال : سلمت إن كان الثمن ألفا ، وإنما أقدم على هذا التسليم لغلاء الثمن ، أو ; لأنه لم يكن متمكنا من تحصيل الألف ، ولا يزول هذا المعنى إذا كان الثمن أكثر من ألف ، بل يزداد ، فأما إذا كان الثمن أقل من الألف ، فقد انعدم المعنى الذي كان لأجله رضي بالتسليم ، فيكون على حقه وهذا ; لأن الأخذ بالشفعة شراء ، وقد يرغب المرء في شراء شيء عند قلة الثمن ، ولا يرغب فيه عند كثرة الثمن ولو سلم الشفعة قبل الشراء كان ذلك باطلا ; لأن وجوب حقه بالشراء ، والإسقاط قبل وجود سبب الوجود يكون لغوا كالإبراء عن الثمن قبل البيع ولو أخبر أن الثمن شيء مما يكال ، أو يوزن فسلم الشفعة ، فإذا الثمن من صنف آخر أقل مما يسمى له ، أو أكثر ، فهو على شفعته ; لأن الإنسان قد يتيسر عليه جنس دون جنس وكان هذا التقييد مفيدا في حقه فكأنه قال : سلمت إن كان الثمن كرا من شعير ، فإذا ظهر أن الثمن كر من حنطة ، فهو على حقه لو أخبر أن الثمن عبد ، أو ثوب ، أو دابة ، ثم ظهر أنه كان مكيلا أو موزونا ، فهو شفعته ; لأن ما له مثل من جنسه الشفيع يأخذ بمثل ما اشتراه المشتري وفيما لا مثل له يأخذ بقيمته دراهم ، وقد يتيسر عليه تحصيل جنس من المكيل ، والموزون ويتعذر عليه تحصيل الدراهم فكان هذا التقييد مفيدا في حقه

ولو أخبر أن الثمن ألف درهم فسلم ، ثم تبين له أن الثمن مائة دينار قيمتها ألف درهم ، أو أقل ، أو أكثر فعندنا هو على شفعته إن كان قيمتها أقل من الألف وإلا فتسليمه [ ص: 106 ] صحيح وعلى قول زفر هو على شفعته على كل حال ; لأن الدراهم ، والدنانير جنسان ; ولهذا حل التفاضل بينهما فكأنه قال : سلمت إن كان الثمن ألف درهم ، فإذا تبين أن الثمن دنانير ، فهو على شفعته كما في المكيلات ، والموزونات ، ولكنا نقول : الدراهم ، والدنانير جنسان صورة ، ولكنهما جنس واحد في المعنى ، والمقصود هو المالية والثمنية ومبادلة أحد النقدين بالآخر يتيسر في العادة ، فلا يتقيد رضاه بالصورة ، وإنما يتقيد بالمعنى وهو مقدار المالية ، فيكون تسليمه صحيحا إذا كانت مالية الثمن أقل مما أخبر به وهذا ; لأن من لا يرغب في شراء الشيء بألف درهم لا يرغب في شرائه أيضا بمائة دينار قيمتها ألف درهم وما لا يكون مقيدا من التقييد لا يعتبر ولو قيل له اشتراها بعبد ، أو ثياب قيمته ألف درهم فسلم ، فإذا الثمن دراهم ، أو دنانير ، فهو على شفعته ; لأن هذا التقييد مفيد في حقه ; لأنه ، وإن كان يأخذها بالقيمة ، فقد يصير مغبونا في ذلك ; لأن تقويم الشيء بالظن يكون قائما أقدم على التسليم لهذا وينعدم هذا المعنى إذا كان الثمن دراهم ولو قيل له إنه اشتراها بعبد قيمته ألف درهم فسلم الشفعة ، فإذا قيمة العبد أكثر من ذلك ، فلا شفعة له ، وإن كانت قيمته أقل من ألف درهم فله الشفة ; لأن الثمن إذا كان مما لا مثل له من جنسه ، فإنما يأخذ الشفيع بقيمته فكان هذا في حقه بمنزلة البيع بتلك القيمة ، فإذا كان لثمن أقل مما أخبر به لم يكن هو راضيا بسقوط حقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية