الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1032 - علي بن حمزة بن عبد الله ، أبو الحسن الأسدي ، المعروف بالكسائي النحوي .

أحد أئمة القراء ، من أهل الكوفة ، استوطن بغداد ، وعلم الرشيد ، ثم الأمين بعده ، وكان قد قرأ على حمزة الزيات ، فأقرأ ببغداد زمانا بقراءة حمزة ، ثم اختار لنفسه قراءة ، فأقرأ بها الناس .

[ ص: 169 ] وقد سمع الحديث من أبي بكر بن عياش ، وسفيان بن عيينة ، وآخرين .

وروى عنه : الفراء ، وأبو عبيد .

وقال الشافعي : من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي .

أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا أحمد بن ثابت ، أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي ، أخبرنا محمد بن جعفر بن هارون التميمي ، حدثنا أبو علي الحسن بن داود ، حدثنا أبو جعفر عقدة ، حدثنا أبو يزيد الوضاحي قال : قال لي الفراء : إنما تعلم الكسائي النحو على الكبر ، وكان سبب تعلمه : أنه جاء يوما وقد مشى حتى أعي ، فجلس إلى الهبارين فقال : قد عييت . فقالوا له : أتجالسنا وأنت تلحن ؟ ! فقال : كيف لحنت ؟ فقالوا له : إن كنت أردت من التعب فقل أعييت ، وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتدبير والتحير في الأمر فقل : عييت - مخففة فأنف من هذه الكلمة وقام من فوره ، فسأل عمن يعلم النحو . فأرشدوه إلى معاذ الهرا ، فلزمه حتى أنفذ ما عنده ، ثم خرج إلى البصرة [فلقي الخليل وجلس في حلقته ، فقال له رجل من الأعراب : تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة ، وجئت إلى البصرة ؟ ] فقال للخليل : من أين أخذت علمك [هذا ] ؟ فقال : من بوادي الحجاز ، ونجد ، وتهامة . فخرج ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه ، ولم يكن له همة غير [ البصرة و ] الخليل ، فوجد الخليل قد مات وقد جلس موضعه يونس النحوي ، [ ص: 170 ] فمرت بينهم مسائل أقر له يونس فيها وصدره موضعه .

قال مؤلف الكتاب رحمه الله : وفي تسميته بالكسائي قولان :

أحدهما : أنه أحرم في كساء .

أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا أحمد بن علي ، أنبأنا علي بن أحمد بن عمر المقرئ ، أخبرنا عبد الواحد عمر بن محمد بن أبي هاشم ، حدثني محمد بن سليمان بن محبوب ، حدثنا أبو عبد الرحمن البصري مردويه ، حدثنا علي بن عبد الله المدني ، حدثنا عبد الرحيم بن موسى قال : قلت للكسائي : لم سميت الكسائي ؟ قال : لأني أحرمت في كساء .

القول الثاني : أخبرنا به أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر بن ثابت ، أخبرنا محمد بن علي الصوري ، أخبرنا أبو الحسن عبيد الله بن القاسم القاضي ، حدثنا علي بن محمد الحراني ، حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى بن سليمان المروزي قال : سألت خلف بن هشام : لم سمي الكسائي كسائيا ؟ قال : دخل الكسائي الكوفة فجاء إلى مسجد السبيع ، وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرئ فيه ، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر وهو ملتف بكساء ، فرمقه القوم بأبصارهم ، فقالوا : إن كان حائكا فسيقرأ سورة يوسف ، وإن كان ملاحا فسيقرأ سورة طه ، فسمعهم ، فابتدأ بسورة يوسف ، فلما بلغ قصة الذئب قرأ : فأكله الذئب بغير همز ، فقال له حمزة : الذئب بالهمز . فقال له الكسائي : وكذلك أهمز الحوت فالتقمه الحؤت . قال : لا . قال : فلم همزت الذئب ولم تهمز الحوت ؟ وهذا فأكله الذئب ، وهذا فالتقمه الحوت ؟ فرفع حمزة بصره إلى خلاد الأحول ، وكان أجمل غلمانه ، فتقدم إليه في جماعة [من ] أهل المجلس فناظروه فلم [ ص: 171 ] يصنعوا شيئا . فقالوا : أفدنا يرحمك الله . فقال لهم الكسائي : تفهموا عن الحائك ؟ تقول إذا نسبت [الرجل ] إلى الذئب : قد استذأب الرجل ، فلو قلت : استذاب - بغير همز - لكنت إنما نسبته إلى الهزال ، تقول : قد استذاب الرجل إذا استذاب شحمه - بغير همز - وإذا نسبته إلى الحوت تقول : قد استحات الرجل ، أي كثر أكله ، لأن الحوت يأكل كثيرا ، لا يجوز فيه الهمز ، فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت ، وفيه معنى آخر : لا تسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه ، وأنشدهم :


أيها الذئب وابنه وأبوه أنت عندي من أذأب الضاريات



قال : فسمي الكسائي من ذلك اليوم .

أخبرنا أبو منصور ، أخبرنا أحمد الخطيب ، حدثنا الحسين بن محمد أخو الخلال ، حدثنا الصاحب إسماعيل بن عباد ، أخبرنا عبد الله بن محمد الأيجي ، أخبرنا محمد بن الحسن الأزدي ، حدثنا أبو حاتم السجستاني قال : وفد علينا عامل من أهل الكوفة لم أر في عمال السلطان بالبصرة أبرع منه ، فدخلت مسلما عليه ، فقال لي : يا سجستاني ، من علماؤكم بالبصرة ؟ قلت : الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي ، والمازني أعلمنا بالنحو ، وهلال الرأي أفقهنا ، والشاذكوني أعلمنا بالحديث ، وأنا رحمك الله أنسب إلى علم القرآن ، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط . قال : فقال لكاتبه : إذا كان غد فاجمعهم . قال : فجمعنا فقال : أيكم أبو عثمان المازني ؟ قال أبو عثمان : ها أنا ذا يرحمك الله . قال : هل يجزي في كفارة الظهار عتق عبد أعور ؟ قال المازني : لست صاحب فقه ، أنا صاحب عربية . فقال : يا زيادي ، كيف يكتب بين رجل وامرأة خالعها زوجها على الثلث من صداقها ؟ قال : ليس هذا من علمي ، هذا من علم هلال الرأي . قال : يا هلال ، كم أسند ابن عون عن الحسن ؟ قال : ليس هذا من علمي ، هذا من علم [ ص: 172 ] الشاذكوني . قال : يا شاذكوني يثنون صدورهم قال : ليس هذا من علمي ، هذا من علم أبي حاتم . قال : يا أبا حاتم ، كيف تكتب إلى أمير المؤمنين كتابا تصف فيه خصاصة أهل البصرة وما أصابهم في الثرمة ، وتسأله لهم النظر والنظرة ؟ قال : لست - رحمك الله - صاحب بلاغة وكتابة ، أنا صاحب قرآن . فقال : ما أقبح الرجل يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فنا واحدا ، حتى إذا سئل عن غيره لم يجل فيه ولم يمر ، ولكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا كله أجاب .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الأصفهاني ، حدثنا جعفر الخالدي ، حدثنا ابن مسروق ، حدثنا سلمة بن عاصم قال : قال الكسائي : صليت بهارون الرشيد فأعجبتني قراءتي ، فغلطت في آية ما غلط فيها صبي قط ، أردت أن أقول : ( لعلهم يرجعون) فقلت : لعلهم يرجعين ، فوالله ما اجترأ هارون [أن ] يقول لي أخطأت ، ولكنه لما سلمت قال لي : يا كسائي ، أي لغة هذه ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، قد يعثر الجواد . فقال : أما هذا فنعم .

أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا أبو بكر بن علي ، أخبرنا هلال بن الحسن ، أخبرنا ابن الجراح ، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال : قال لي الفراء : لقيت الكسائي يوما فرأيته كالباكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : هذا الملك يحيى بن خالد يوجه إلي فيحضرني فيسألني عن الشيء ، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عيب ، وإن بادرت لم آمن الزلل . قال : فقلت - ممتحنا له - : يا أبا الحسن ، من يعترض عليك قل ما شئت ، فأنت الكسائي . فأخذ لسانه بيده فقال : قطعه الله إن قلت ما لا أعلم .

[ ص: 173 ] أخبرنا القزاز [أخبرنا الخطيب ، أخبرنا أحمد بن عبد الله الثابتي ، أخبرنا أحمد بن موسى القرشي ، أخبرنا محمد بن يحيى الصولي ، حدثنا عون بن محمد الكندي ، حدثنا ] سلمة بن عاصم قال : حلفت أن لا أكلم عاميا إلا بما يوافقه ويشبه كلامه ، فوقفت على نجار فقلت : بكم هذان البابان ؟ فقال : بسلحتان يا مصفعان .

توفي الكسائي في هذه السنة . هكذا ذكر ابن عرفة ، وابن كامل القاضي . وذكر ابن الأنباري أنه مات في سنة اثنتين وثمانين هو ومحمد بن الحسن ، فدفنهما الرشيد ، قال : وبلغ الكسائي سبعين سنة .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا الخطيب ، أخبرنا علي بن أحمد بن عمر المقرئ ، أخبرنا أبو بكر بن مقسم ، حدثنا ابن فضلان ، حدثنا الكسائي الصغير ، حدثنا أبو مسحل قال : رأيت الكسائي في النوم كأن وجهه البدر فقلت له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي بالقرآن ، فقلت : ما فعل حمزة الزيات ؟ قال : ذاك في عليين ما نراه إلا كما نرى الكوكب الدري . 1033 - محمد بن الحسن بن فرقد ، أبو عبد الله الشيباني مولاهم ، صاحب أبي حنيفة .

أصله دمشقي من قرية هناك ، قدم أبوه العراق فولد محمد بواسط في سنة اثنتين وثلاثين ، ونشأ بالكوفة وسمع العلم بها من أبي حنيفة ، ومسعر ، والثوري ، وعمر بن ذر ، ومالك بن مغول ، وكتب عن مالك بن أنس رضي الله عنهما ، والأوزاعي ، وأبي يوسف القاضي .

سكن بغداد وحدث بها ، وغلب عليه الرأي ، وبلغ فيه الغاية . وروى عنه : الشافعي ، وأبو عبيد وجماعة .

وخرج إلى الرقة ، والرشيد بها ، فولاه قضاء الرقة ، ثم عزله فقدم بغداد ، فلما [ ص: 174 ] خرج الرشيد إلى الري خرج معه ، فمات بالري .

وكان يقول : ترك أبي ثلاثين ألف درهم ، فأنفقت خمسة عشر ألفا على النحو والشعر ، وخمسة عشر ألفا على الحديث والفقه .

وكان يقول لأهله : لا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا تشغلوا قلبي ، وخذوا ما تحتاجون إليه من وكيلي ، فإنه أقل لهمي ، وأفرغ لقلبي .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ ، أخبرنا رضوان بن محمد الدينوري قال : سمعت الحسين بن جعفر العنزي يقول : سمعت أبا بكر بن المنذر يقول : سمعت المزني يقول : سمعت الشافعي يقول : ما رأيت سمينا أخف روحا من محمد بن الحسن ، وما رأيت أفصح منه ، كنت إذا رأيته يقرأ كأن القرآن أنزل بلغته .

وفي رواية عن الشافعي : أنه قال : ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن ، وحملت عنه وقر بختي كتبا .

وقال رجل للشافعي : في أي مسألة خالفك الفقهاء ؟ فقال الشافعي : وهل رأيت فقيها قط ، اللهم إلا أن يكون محمد بن الحسن ، فإنه كان يملأ العين والقلب .

قال الطحاوي : وكان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب [السير ] فلم يجبه إلى الإعارة ، فكتب إليه :


قل للذي لم تر     عين من رآه مثله
حتى كأن من رآه     قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله     أن يمنعوه أهله



[ ص: 175 ]

لعله يبذله     لأهله لعله



فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية .

وقال إبراهيم الحربي : قلت لأحمد بن حنبل : هذه المسائل الدقاق من أين لك ؟ قال : من كتب محمد بن الحسن .

قال أحمد : وكان يذهب مذهب جهم .

وكذلك قال أبو زرعة : كان محمد بن الحسن جهميا .

قال نوح بن ميمون : دعاني محمد بن الحسن إلى القول بخلق القرآن ، فأبيت عليه .

أخبرنا أبو منصور ، أخبرنا أبو بكر الحافظ ، أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب قال : سألت الدارقطني عن محمد بن الحسن فقال : قال يحيى بن معين : كذاب .

وقال فيه أحمد نحو هذا . وعندي لا يستحق الترك .

وقال علي بن المديني : محمد بن الحسن صدوق .

توفي محمد بن الحسن بالري في صحبة الرشيد سنة تسع وثمانين ومائة ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة .

قال أبو عمر الزاهد : سمعت أحمد بن يحيى يقول : توفي الكسائي ومحمد بن الحسن في يوم واحد ، فقال الرشيد : دفنت اليوم اللغة والفقه .

قال أبو عبد الله محمد بن يوسف بن درست : مات محمد بن الحسن والكسائي [ ص: 176 ] في يوم واحد ، ومات معروف الكرخي في يوم واحد وأبو نواس ، ومات ابن دريد وأبو هاشم بن علي الجبائي في يوم واحد ، ومات الشبلي ، وعلي بن عيسى الوزير في يوم واحد ، ودفنا جميعا بالخيزرانية ومات محمد بن داود الأصفهاني ويوسف بن يعقوب القاضي في يوم واحد ، ومات القاضيان أبو حسان الزيادي - وكان على قضاء الشرقية - والحسن بن الجعد - وكان على مدينة المنصور - في يوم واحد ، ومات أبو العتاهية والعباس بن الأحنف وإبراهيم الموصلي في يوم واحد .

1034 - يحيى بن يمان ، أبو زكريا العجلي .

كوفي ، سمع الثوري ، وروى عنه : يحيى بن معين ، والحسن بن عرفة ، وكان صالحا صدوقا ، كثير الحفظ ، لكنه نسي فصار يغلط .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، أخبرنا علي بن محمد بن محمد المعدل ، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق ، حدثنا الحسن بن عمر قال : سمعت بشرا يقول : كنت جالسا بين يدي يحيى بن يمان . قال : فكنت أعجب من ثيابه ، وكان يعجب من ثيابي ، وذكر كثرة رقاع في جبة يحيى بن يمان . قال بشر : فمر إنسان عليه بزة فقال : ثيابك أحسن من ثيابي . قال بشر : أراد أن يقويني .

توفي يحيى بن يمان في هذه السنة . وقيل : في سنة ثمان ، وكان قد فلج .

التالي السابق


الخدمات العلمية