الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

958 - شريك بن عبد الله ، أبو عبد الله النخعي الكوفي ، القاضي .

أدرك عمر بن عبد الرحمن ، وسمع أبا إسحاق السبيعي ، ومنصور بن المعتمر ، [ ص: 30 ] وعبد الملك بن عمير ، وسماك بن حرب ، وسلمة بن كهيل ، وحبيب بن أبي ثابت ، والأعمش وخلقا كثيرا . روى عنه : ابن المبارك ، ووكيع ، وابن مهدي ، وغيرهم . وهو من كبار العلماء الثقات ، إلا أن قوما قدحوا في حفظه .

أخبرنا [ أبو منصور ] القزاز ، قال : أخبرنا [ أبو بكر أحمد بن علي ] الخطيب قال : أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي قال : أخبرنا محمد بن جعفر التميمي قال : أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال : أخبرنا وكيع قال : أخبرني إبراهيم بن عثمان قال : حدثنا أبو خالد يزيد بن يحيى بن يزيد قال : حدثني أبي قال : مر شريك القاضي بالمستنير بن عمرو النخعي فجلس إليه فقال : أبا عبد الله ، من أدبك ؟ قال : أدبتني نفسي ، والله ولدت ببخارى فحملني ابن عم لنا حتى طرحني عند بني عم لي ، فكنت أجلس إلى معلم لهم فعلق بقلبي تعلم القرآن ، فجئت إلى شيخهم فقلت : يا عماه ، الذي كنت تجريه علي هنا أجره علي بالكوفة أعرف بها السنة وقومي ، ففعل ، فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه وأشتري دفاتر وطروسا ، فأكتب فيها العلم والحديث ، ثم طلبت الفقه فبلغت ما ترى فقال المستنير لولده : سمعتم قول [ابن ] عمكم ، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه ، فليؤدب كل رجل منكم نفسه ، فمن أحسن فلها ، ومن أساء فعليها .

لما ولي القضاء اضطرب حفظه .

أخبرنا أبو منصور قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال : أخبرنا أبو الفرج محمد بن عمر الجصاص قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف قال : وجدت في كتابنا عن أبي العباس بن مسروق ما يدل حاله على السماع . قال : سمعت أبا كريب يقول : سمعت يحيى بن يمان يقول : لما ولي شريك القضاء أكره على ذلك ، وأقعد معه جماعة من الشرطة يحفظونه ، ثم طاب للشيخ [فقعد ] من نفسه ، فبلغ الثوري أنه قعد من [ ص: 31 ] نفسه ، فجاء فتراءى له ، فلما رأى الثوري قام إليه فعظمه وأكرمه ، ثم قال : يا أبا عبد الله ، هل من حاجة ؟ قال : نعم مسألة . قال : أوليس عندك من العلم ما يجزيك ؟ قال : أحببت أن أذاكرك بها . قال : قل . قال : ما تقول في امرأة جاءت فجلست على باب رجل ، ففتح الرجل الباب واحتملها ، ففجر بها [ ، لمن تحد منهما ؟ ] فقال له : دونها لأنها مغصوبة . قال : فإنه لما كان من الغد جاءت فتزينت [وتبخرت ] وجلست على ذلك الباب ، ففتح الرجل الباب فرآها فاحتملها ففجر بها ، لمن تحد منهما ؟ قال : أحدهما جميعا ، لأنها جاءت من نفسها ، وقد عرفت الخبر بالأمس . قال : أنت كان عذرك حيث كان الشرط يحفظونك ، اليوم أي عذر لك ؟ قال : يا أبا عبد الله ، أكلمك . قال : ما كان الله ليراني أكلمك أو تتوب . قال : فوثب فلم يكلمه حتى مات وكان إذا ذكره قال : أي رجل كان لو لم يفسدوه .

أخبرنا [ أبو منصور ] القزاز قال : أخبرنا [ أبو بكر بن ثابت ] الخطيب قال : أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال : حدثنا البغوي قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سليمان بن شيخ قال : حدثني عبد الله بن صالح بن مسلم قال : كان شريك على قضاء الكوفة فخرج يلقى الخيزران ، فبلغ شاهي وأبطأت الخيزران ، فأقام ينتظرها ثلاثا ويبس خبزه ، فجعل يبله بالماء ويأكله ، فقال العلاء بن المنهال :


فإن كان الذي قد قلت حقا بأن قد أكرهوك على القضاء     فما لك موضعا في كل يوم
تلقى من يحج من النساء



[ ص: 32 ]

مقيم في قرى شاهي ثلاثا     بلا زاد سوى كسر وماء



أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال : أخبرنا أبو الطيب الطبري قال : أخبرنا المعافى بن زكريا قال : حدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال : حدثنا الزبير قال : حدثني عمي ، عن عمر بن الهياج بن سعيد قال : أتته امرأة يوما - يعني شريكا - وهو في مجلس الحكم ، فقالت : إنا بالله ثم بالقاضي ، امرأة من ولد جرير بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم . ورددت الكلام فقال : إيها عنك الآن من ظلمك ؟ فقالت : الأمير موسى بن عيسى ، كان لي بستان على شاطئ الفرات ، لي فيه نخل ورثته عن آبائي ، فقاسمت إخوتي وبنيت بيني وبينهم حائطا ، وجعلت فيه فارسيا في بيت يحفظ النخل ، ويقوم ببستاني ، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من إخوتي جميعا ، وساومني وأرغبني فلم أبعه ، فلما كان في هذه الليلة بعث بخمسمائة فاعل فاقتلعوا الحائط ، فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا ، واختلط بنخل إخوتي ، فقال : يا غلام طينه بختم ، ثم قال لها : امضي إلى بابه حتى يحضر معك . فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب ودخل بها إلى موسى فقال : أعدى شريك عليك ، فقال : ادع لي صاحب الشرط . فدعا به ، فقال : امض إلى شريك ، فقل يا سبحان الله ، ما رأيت أعجب من أمرك امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي ! قال : يقول له صاحب الشرط ، إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل ، فقال : امض ويلك . فخرج فأمر غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراش وغيره من آلة الحبس ، فلما جاء وقف بين يدي شريك فأدى الرسالة ؟ قال : خذ بيده فضعه في الحبس . قال : قد عرفت والله إنك تفعل بي هذا ، فقدمت ما يصلحني إلى الحبس ، وبلغ موسى بن عيسى الخبر ، فوجه الحاجب إليه فقال : هذا رسول ، أي شيء عليه ؟ فلما وقف بين يديه وأدى الرسالة قال : ألحقه بصاحبه فحبس . [ ص: 33 ] فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن الصباح الأشعثي وجماعة من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك . فقال : امضوا إليه وأبلغوه سلامي ، وأعلموه أنه قد استخف بي وإني لست كالعامة ، فمضوا وهو جالس في مسجده بعد العصر ، فدخلوا عليه فأبلغوه الرسالة ، فلما انقضى كلامهم قال [لهم : ] ما لي لا أراكم جئتم في غيره من الناس فكلمتموني ؟ من ها هنا من فتيان الحي ؟ فليأخذ كل واحد منكم بيد رجل ، فيذهب به إلى الحبس لا ينم والله إلا فيه . قالوا : أجاد أنت ؟ قال : حقا حتى لا تعودوا برسالة ظالم . فحبسهم فركب موسى بن عيسى في الليل إلى باب الحبس ، فأطلقهم جميعا . فلما كان من الغد وجلس شريك للقضاء ، جاء السجان فأخبره فدعا بالقمطر فختمه ، ووجه به إلى منزله ، ثم قال لغلامه ألحقني بثقلي إلى بغداد ، فوالله ما طلبنا هذا الأمر منهم ، ولكن أكرهونا عليه ، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذ [قد ] تقلدناه لهم ، ومضى نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد .

وبلغ موسى بن عيسى الخبر ، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول : يا أبا عبد الله تثبت ، انظر إخوانك تحبسهم دع أعواني . قال : نعم لأنهم مشوا لك في أمر لم يجب عليهم المشي فيه ، ولست ببارح أو يردوا جميعا إلى الحبس وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته مما قلدني . فأمر بردهم جميعا إلى الحبس ، وهو والله واقف مكانه حتى جاءه السجان فقال له : قد رجعوا إلى الحبس . فقال لأعوانه : خذوا بلجامه ، فردوه بين يدي إلى مجلس الحكم فمروا به بين يديه حتى أدخل المسجد وجلس مجلس القضاء ، ثم قال : علي بالجويرية المتظلمة [من هذا ] فجاءت فقال : هذا خصمك قد حضر ، وهو جالس معها بين يديه ، فقال : أولئك يخرجون من الحبس [ ص: 34 ] قبل كل شيء . قال : أما الآن فنعم ، أخرجوهم . ثم قال له : ما تقول فيما تدعيه هذه [المرأة ؟ ] قال : صدقت . قال : فرد جميع ما أخذ منها وتبني حائطها في وقت واحد سريعا كما هدم . قال : أفعل . قال : بقي لك شيء . قال : تقول المرأة بيت الفارسي ومتاعه . قال : يقول موسى بن عيسى : ونرد ذلك [جميعه ] ، بقي لك شيء تدعينه ؟ قالت : لا ، وجزاك الله خيرا . قال : قومي ، ثم وثب من مجلسه ، فأخذ بيد موسى بن عيسى ، فأجلسه في مجلسه ، ثم قال : السلام عليك أيها الأمير تأمر بشيء ؟ قال : أي شيء آمر ؟ ! وضحك .

أخبرنا القزاز قال أخبرنا [ أحمد بن علي ] الخطيب قال : أخبرنا العتيقي قال : أخبرنا محمد بن العباس قال : حدثنا محمد بن خلف قال : أخبرني أحمد بن عثمان بن حكيم قال : أخبرني أبي قال : كان شريك القاضي لا يجلس حتى يتغدى ثم يأتي المسجد فيصلي ركعتين ، ثم يخرج رقعة من قمطرة فينظر فيها ، ثم يدعو بالخصوم ، وإنما كان يقدمهم الأول فالأول ، فقيل لابن شريك : نحب أن نعلم ما في هذه الرقعة ؟ فنظر فيها ثم أخرجها إلينا ، فإذا فيها : يا شريك بن عبد الله [اذكر الصراط وحدته ، يا شريك بن عبد الله ] اذكر الموقف بين يدي الله تعالى .

توفي شريك بالكوفة يوم السبت غرة ذي القعدة من هذه السنة رحمه الله تعالى .

[ ص: 35 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية