الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

1035 - أسد بن عمرو بن عامر ، أبو المنذر البجلي الكوفي ، صاحب أبي حنيفة .

تفقه وسمع من حجاج بن أرطأة ، روى عنه : أحمد بن حنبل وغيره . كان قد ولي [ ص: 185 ] القضاء ببغداد وبواسط ، فأنكر من بصره شيئا ، فرد القمطر واعتزل عن القضاء . وثقه يحيى ، وقال أحمد : كان صدوقا . وضعفه علي ، والبخاري ، وتوفي في هذه السنة .

1036 - حكام بن سلم الكناني الرازي ، أبو عبد الرحمن .

سمع من إسماعيل بن خالد ، والزبير بن عدي ، وحميد الطويل ، والثوري . روى عنه : يحيى بن معين ، وأبو معمر الهذلي . وكان ثقة .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر بن ثابت ، أخبرنا الحسن بن أبي بكر ، أخبرنا محمد بن أحمد الصواف ، حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثنا أبو معمر قال :

حدثنا حكام الرازي ، حدثنا جراح الكندي ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ، ما فيهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى .

توفي حكام بمكة في هذه السنة قبل أن يحج .

1037 - سعدون المجنون .

أخبرنا محمد بن أبي القاسم ، أخبرنا أحمد بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله الأصفهاني ، حدثنا عثمان بن محمد العثماني قال : قرئ على أبي الحسن أحمد بن محمد بن عيسى وأنا حاضر قال : سمعت يوسف يقول : قال الفتح بن شخرف : كان سعدون صاحب محبة لله ، صام ستين سنة حتى خف دماغه ، فسماه الناس مجنونا لتردد قوله في المحبة ، فغاب عنا زمانا ، فبينا أنا قائم على حلقة ذي النون رأيت عليه جبة صوف ، وعليها مكتوب : "لا تباع ولا تشترى" فسمع كلام ذي النون ، فصرخ وأنشأ يقول :


ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر

[ ص: 186 ] أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون ، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، أخبرنا رضوان بن محمد بن الدينوري ، حدثنا أحمد بن علي بن لال ، حدثنا مكي بن بندار الزنجاني ، حدثنا أبو علي الحسين بن عبد الله البلاذري ، حدثنا عبد العزيز بن قرة قال : قال الأصمعي : مررت بسعدون فإذا هو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه . فقلت : سعدون ، ما لي أراك جالسا عند رأس هذا الشيخ . فقال : إنه مجنون ، فقلت له : أنت المجنون أو هو ؟ قال : لا بل هو . قلت : من أين قلت ذلك ؟ قال : لأني صليت الظهر والعصر جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى . قلت : فهل قلت في ذلك شيئا ؟ فقال :

تركت النبيذ لأهل النبيذ     وأصبحت أشرب ماء قراحا
لأن النبيذ يذل العزيز     ويكسو [سواد ] الوجوه الصباحا
فإن كان ذا جائزا للشباب     فما العذر فيه إذا الشيب لاحا

فقلت له : صدقت . وانصرفت .

1038 - عبد الله بن عمر بن غانم ، أبو عبد الرحمن الرعيني .

ولد سنة ثمان وعشرين ومائة ، ورحل في طلب العلم . وروى عن مالك وغيره .

وهو أحد الثقات الأثبات . ولي القضاء بإفريقية ، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة .

1039 - عبد الواحد بن واصل ، أبو عبيدة الحداد ، مولى سدوس .

سمع سعيد بن أبي عروبة ، وشعبة ، وهو بصري سكن بغداد وحدث بها ، فروى عنه أحمد وغيره ، ويحيى ، وأبو خيثمة ، وكان ثقة من المثبتين .

توفي في هذه السنة . [ ص: 187 ]

1040 - عبيدة بن حميد بن صهيب ، أبو عبد الرحمن التيمي .

ولد سنة سبع ومائة ، وسمع منصور بن المعتمر ، والأعمش . وروى عنه :

أحمد بن حنبل ، وكان كوفيا ، فسكن بغداد إلى أن توفي بها في هذه السنة . وكان مؤدبا للأمين ، وكان أحمد يثني عليه .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرني الأزهري ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا أحمد بن معروف ، حدثنا الحسين بن الفهم ، أخبرنا محمد بن سعد قال : عبيدة بن حميد كان ثقة صالحا ، صالح الحديث ، صاحب نحو وعربية ، وقراءة للقرآن ، وكان من أهل الكوفة ، فقدم بغداد أيام هارون الرشيد ، فصيره مع ابنه محمد ، فلم يزل معه حتى مات .

1041 - عطاء بن مسلم ، أبو مخلد الخفاف الحلبي

قدم بغداد وحدث عن الأعمش . قال يحيى ، وأبو داود : كان ثقة .

حدثنا القزاز ، أخبرنا الخطيب ، أخبرنا أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي ، أخبرنا محمد بن أحمد الغطريف العبدي ، حدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا محمد بن الحسن بن نافع ، حدثنا محمد بن أبي سكينة قال : دخلت على عطاء بن مسلم أعوده ، فما لبثت أن قمت ، فقال : جزاك الله خيرا من عائد ، لكن عيسى بن صالح لا جزاه الله خيرا ، عادني فما برح حتى بلت في ثيابي .

توفي عطاء في رمضان هذه السنة . [ ص: 188 ]

1042 - يحيى بن خالد بن برمك ، أبو علي .

كان المهدي قد ضم إليه هارون الرشيد وجعله في حجره ، فلما استخلف هارون عرف ليحيى حقه ، وكان يعظمه ، وإذا ذكره يقول : قال أبي . وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه ، إلى أن نكب البرامكة ، فغضب عليه ، وخلده في الحبس إلى أن مات فيه .

وكان له الكلام الحسن ، والكرم الواسع ، فمن كلامه : حاجب الرجل عامله على عرضه .

وقال : من بلغ رتبة تاه بها أخبر أن محله دونها .

وقال : يدل على كرم الرجل سودان غلمانه .

وقال لابنه : خذ من كل طرفا ، فإن من جهل شيئا عاداه .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا الحسن بن محمد الخلال ، حدثنا أحمد بن محمد بن عمران ، أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى النديم قال :

قال يحيى بن خالد : ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها : الهدية ، والكتاب ، والرسول .

وكان يقول لولده : اكتبوا أحسن ما تسمعون ، واحفظوا أحسن ما تكتبون ، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون .

قال ابن عمران : وحدثنا أبو عبد الله الحكيم قال : حدثني ميمون بن هارون قال :

حدثني علي بن عيسى قال : كان يحيى بن خالد يقول : إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى ، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا الخطيب ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القزاز ، أخبرنا أبو سعيد السيرافي ، حدثنا محمد بن أبي الأزهر ، حدثنا الزبير بن بكار قال :

سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول : كانت صلات يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له [ ص: 189 ] بمائتي درهم ، فركب ذات يوم ، فعرض له أديب شاعر فقال :


يا سمي الحصور يحيى أتيحت     لك من فضل ربنا جنتان
كل من مر في الطريق عليكم     فله من نوالكم مائتان
مائتا درهم لمثلي قليل     هي منكم للقابس العجلان

قال يحيى : صدقت . وأمر بحمله إلى داره ، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله ، فذكر أنه تزوج ، وأخذ بواحدة من ثلاث ، إما أن تؤدي المهر وهو أربعة آلاف درهم ، وإما أن يطلق ، وإما أن يقيم جاريا [للمرأة ] ما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها ، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر ، وأربعة آلاف لثمن منزل ، وأربعة آلاف لما يحتاج إليه [المنزل ] وأربعة آلاف للبنية ، وأربعة آلاف يستظهر بها ، فأخذ عشرين ألف درهم .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ ، أخبرنا أحمد بن عمر النهرواني ، أخبرنا المعافى ، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج ، حدثنا حسين بن فهم قال : قال ابن الموصلي : حدثني أبي [قال : ] أتيت يحيى بن خالد بن برمك ، فشكوت إليه ضيقة ، فقال : ويحك ! ما أصنع بك ؟ ليس عندنا في هذا الوقت شيء ، ولكن ها هنا أمر أدلك عليه ، فكن فيه رجلا ، قد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن أستهدي صاحبه شيئا ، وقد أبيت ذلك ، فألح علي وقد بلغني أنك أعطيت بجاريتك فلانة آلاف دنانير ، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني ، فإياك أن تنقصها من ثلاثين ألف دينار ، وانظر كيف يكون . قال : فو الله ما شعرت إلا بالرجل قد وافاني فساومني بالجارية . فقلت : لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار ، فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار ، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها ، فبعتها وقبضت [ ص: 190 ] العشرين ألفا ، وصرت إلى يحيى بن خالد ، فقال لي : كيف صنعت في بيع جاريتك ؟

فأخبرته وقلت : والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العشرين ألفا حين سمعتها . فقال :

إنك لخسيس ، وهذا خليفة فارس قد جاءني في مثل هذا ، فخذ جاريتك ، فإذا ساومك بها فلا تنقصها من خمسين ألف دينار ، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذلك .

قال : فجاءني الرجل فأسمت عليه خمسين ألف دينار ، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار ، فضعف قلبي عن ردها ، ولم أصدق بها ، فأوجبتها له بها ، ثم صرت إلى يحيى بن خالد ، فقال لي : بكم بعت الجارية ؟ فأخبرته ، فقال : ويحك ! أما تؤدبك الأولى عن الثانية . قلت : والله ضعف قلبي عن رد شيء ، لم أطمع فيه . فقال :

هذه جاريتك فخذها إليك . قال : جارية أفدت بها خمسين ألف دينار ، ثم أملكها ، أشهدك أنها حرة ، وأني قد تزوجتها .

أخبرنا [أبو ] منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب : وبلغنا أن الرشيد بعث صالحا صاحب المصلى إلى منصور بن زياد يقول له : قد وجب عليك عشرة آلاف درهم ، فاحملها إلي اليوم ، فإن فعل إلى ما قبل غروب الشمس ، وإلا فخذ رأسه ، وائتني به ، ولا تراجعني . قال صالح : فخرجت إلى منصور فعرفته ، فقال : ذهبت والله نفسي ، والله ما أتمكن من ثلاثمائة ألف درهم فضلا [عن ] عشرة آلاف ألف . قال له صالح :

خذ فيما هو أعود عليك من هذا القول . فقال له : تحملني إلى أهلي حتى أوصي . فلما دخل إليهم ارتفع صياح الحريم والجواري ، فقال لصالح : امض بنا إلى يحيى بن خالد ، لعل الله أن يأتي بالفرج على يده . فمضى معه ، فدخل على يحيى وهو يبكي فقال : ما لك ؟ فقص عليه القصة ، فأطرق متفكرا ثم دعا جارية فقال : كم عندك من المال ؟

قالت : خمسة آلاف ألف درهم . فقال : أعديها . ثم وجه إلى الفضل فقال له : يا بني ، كنت عرفتني أنك تريد أن تشتري ضيعة بألفي ألف درهم ، وقد وجدت لك ضيعة تغل [ ص: 191 ] السكر ، وتبقى الدهر فأنفذها إلي . فأنفذها وأرسل إلى جعفر ، فقال : يا بني ابعث إلي بألف ألف درهم لحق لزمني . فبعث إليه ، ففكر ساعة ثم قال لخادم على رأسه : ابعث إلي دنانير وقل لها هات العقد الذي وهبه لك أمير المؤمنين فأهديه . فقال : هذا عقد أمير المؤمنين بمائة وعشرين ألف دينار . فوهبه لدنانير ، وقد قومناه عليك بألفي ألف درهم ليتم المال ، فخل عن صاحبنا . فأخذت ذلك ، ورددت منصورا معي ، فلما صرنا إلى الباب تمثل منصور :


فما بقيا علي تركتماني     ولكن خفتما صرد النبال

قال صالح : فقلت في نفسي ما أحد أكرم من يحيى ، ولا أردأ طبعا من هذا النبطي ، إذ لم يشكر من أحيا نفسه . وصرت إلى الرشيد فعرفته ما جرى إلا إنشاد البيت ، خوفا عليه أن يقتله . فقال الرشيد : قد علمت أنه لا يسلم إلا بأهل هذا البيت ، فاقبض المال ، واردد العقد ، فما كنت لأهب هبة ثم أرتجعها .

قال صالح : وحملني غيظي من منصور أن عرفت يحيى ما أنشد ، فأقبل يحيى يتحمل له بالغدر ويقول : إن الخائف لا يتقى له لب ، وربما نطق بما لا يعتقد ، فقلت : والله لا أدري من أي فعليك أعجب ، من فعلك معه ، أو من اعتذارك عنه ، لكني أعلم أن الزمان لا يأتي بمثلك أبدا .

وكان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم ، فسمع سفيان يقول في سجوده : اللهم إن يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه بهم آخرته . فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في النوم ، فقال له : ما فعل الله بك . قال : غفر لي بدعوة سفيان .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا أحمد بن أبي جعفر الأخرم ، أخبرنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد الطوماري ، حدثنا المبرد قال : حدثني محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قال : قال أبي لأبيه : يحيى بن خالد بن برمك - وهم في القيود ولبس الصوف والحبس - : يا أبت ، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة [ ص: 192 ] أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس ؟ فقال له أبوه : يا بني ، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها ، ثم أنشأ يقول :


رب قوم قد غدوا في نعمة     زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم     ثم أبكاهم دما حين نطق

توفي يحيى في حبس الرشيد بالرافقة لثلاث خلون من محرم هذه السنة وهو ابن سبعين ، وصلى عليه ابنه الفضل ، ودفن على شاطئ الفرات في ربض هرثمة ، ووجد في جيبه رقعة حين مات ، مكتوب فيها بخطه : "قد تقدم الخصم والمدعى عليه بالأثر ، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة" .

فحملت الرقعة إلى الرشيد ، فلم يزل يبكي يومه ، وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه . [ ص: 193 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية