وذلك أن أصل الإيمان بالله  الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء :  [ ص: 173 ] 
أحدها : أن يعتقد العبد آنيته ليكون بذلك مباينا لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعا . 
الثاني : أن يعتقد وحدانيته ، ليكون مباينا بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره . 
والثالث : أن يعتقده موصوفا بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفا بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه ، إذ قد علمنا أن كثيرا ممن يقربه ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته ، فيكون إلحاده في صفاته قادحا في توحيده . 
ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة في هذه الثلاث والإيمان بها ، فأما دعاؤه إياهم إلى الإقرار بآنيته ووحدانيته ، فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه ، ولأن الجهمي يدعي لنفسه الإقرار بهما وإن كان جحده للصفات قد أبطل دعواه لهما . وأما محاجة الله لخلقه في معنى صفاته التي أمرهم أن يعرفوه بها ،  [ ص: 174 ] فبالآيات التي اقتص فيها أمور بريته في سماواته وأرضيه وما بينهما ، وما أخرجها عليهم من حسن القوام وتمام النظام ، وختم كل آية منها بذكر علمه وحكمته وعزته وقدرته ، مثل قوله عز وجل : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون  والشمس تجري لمستقر لها  فإنه لما ذكر التدبير العجيب الذي دبر به أمرها أتبع ذلك بأن قال : ذلك تقدير العزيز العليم   . 
فإن هذا خرج في ظاهره مخرج الخبر ، وهو في باطنه محاجة بليغة لأن الذي يعقل من تأويله أنه لو لم تكن قدرته نافذة لما جرت هذه الأشياء على ما وجدت عليه ، ولو لم يكن علمه سابقا لما خلقه قبل أن يخلقه ، فلما خرج على هذا النظام العجيب ، إذ كان مما تدركه العقول أن المتعسف في أفعاله لا يوجد لها قوام ولا انتظام ، فهو عز وجل يستشهد لخلقه بآثار صنعته العجيبة ، وإتقانه لما خلق ، وإحكامه على سابق علمه ونافذ قدرته وبليغ حكمته . 
وكذلك قال عز وجل : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور   . لأنه كما أن عين المصنوع أوجب صانعا ، كذلك ما ظهر في آثار الحكمة والقدرة في الصنعة أوجب حكيما قادرا ، وفي دفع آلات الصنعة من العلم والقدرة عليها حتى لا يكون الصانع  [ ص: 175 ] موصوفا بها ، جحد للصانع وإبطال له ،  وإنما أنكر الجهمي صفات الباري تعالى أراد بذلك إبطاله ، ألا ترى أن أصغر خلقه إن أبطلت صنعته بطل ؟ فكيف العظيم الذي ليس كمثله شيء ؟ 
ألا ترى أن النخلة لها جذع وكرب ، وليف ، وجمار ، ولب ، وخوص وهي تسمى نخلة ، فإذا قال القائل : نخلة علم السامع أن النخلة لا تكون إلا بهذا الاسم نخلة ، فلو ، قال : نخلة وجذعها وكربها وليفها وجمارها ولبها وخوصها وتمرها كان محالا ، لأنه يقال : فالنخلة ما هي إذا جعلت هذه الصفات غيرها ؟ 
أرأيت لو قال قائل : إن لي نخلة كريمة ، آكل من تمرها ، غير أنه ليس لها جذع ولا كرب ولا ليف ولا خوص ولا لب وليس هي خفيفة ، وليس هي ثقيلة ، أيكون هذا صحيحا في الكلام ؟ أوليس إنما جوابه أن يقال : إنك لما قلت : نخلة عرفناها بصفاتها ، ثم نعت نعتا نفيت به النخلة . 
فأنت ممن لا يثبت ما سمى إن كان صادقا ، فلا نخلة لك . فإذا كانت النخلة في بعد قدرها من العظيم الجليل تبطل إذا نفيت  [ ص: 176 ] صفاتها ، فليس إنما أراد الجهمي إبطال الربوبية وجحودها . 
فقد تبين في المخلوق أن اسمه جامع لصفاته ، وأن صفاته لا تباينه ، وإنما أراد الجهمي يقول إن صفات الله مخلوقة أن يقول : إن الله كان ولا قدرة ، ولا علم ، ولا عزة ، ولا كلام ، ولا اسم حتى خلق ذلك كله ، فكان بعد ما خلقه . 
فإذا أبطل صفاته فقد أبطله ، وإذا أبطله في حال من الأحوال فقد أبطله في الأحوال كلها ، حتى يقول : إن الله عز وجل لم يزل ولا يزال بصفاته كلها إلها واحدا قديما قبل كل شيء ، ويبقى بصفاته كلها بعد فناء كل شيء ، ويقال للجهمي فيما احتج به من قوله : الله خالق كل شيء  أن قوله : كل شيء  يجمع كل شيء ، لأن الكل يجمع كل شيء ، أليس قد قال الله عز وجل : كل شيء هالك إلا وجهه  ، فهل يهلك ما كان من صفات الله ؟ هل يهلك علم الله فيبقى بلا علم ؟ هل تهلك عزته ؟ تعالى ربنا عن ذلك ، أليس هذه من الأشياء التي لا تهلك وقد قال الله عز وجل : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون  فقد . 
قال : فتحنا عليهم أبواب كل شيء  ، فهل فتح عليهم أبواب التوبة ، وأبواب الرحمة ، وأبواب الطاعة ، وأبواب العافية ، وأبواب السعادة ، وأبواب النجاة مما نزل بهم ؟ وهذه كلها مما أغلق أبوابها عنهم ، وهي شيء ، وقد قال : فتحنا عليهم أبواب كل شيء  ،  [ ص: 177 ] وقد قال أيضا : في بلقيس :  وأوتيت من كل شيء  ، ولم تؤت ملك سليمان  ولم تسخر لها الريح ولا الشياطين ، ولم يكن لها شيء مما في ملك سليمان ،  فقد ، قال : وأوتيت من كل شيء  ، وقال في قصص يوسف ، :  ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء  ، وإنما كان ذلك تفصيلا لكل شيء من قصة يوسف   . 
وقال : وجعلنا من الماء كل شيء حي  ولم يخلق آدم  من الماء وإنما خلقه من تراب ، ولم يخلق إبليس من الماء قال : والجان خلقناه من قبل من نار السموم  ، والملائكة خلقت من نور . 
وقال في الريح التي أرسلت على قوم عاد : تدمر كل شيء بأمر ربها  ، وقد أتت على أشياء لم تدمرها ، ألم تسمع إلى قوله : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم  ، فلم تدمر مساكنهم ،  [ ص: 178 ] ولو أنصف الجهمي الخبيث من نفسه واستمع كلام ربه وسلم لمولاه وأطاعه ، لتبين له ، ولكنه من الذين قال الله عز وجل : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا   . 
فالجهمي الضال وكل مبتدع غال أعمى أصم قد حرمت عليه البصيرة ، فهو لا يسمع إلا ما يهوى ، ولا يبصر إلا ما اشتهى . 
ألم يسمع قول الله عز وجل : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون   . فأخبر أن القول قبل الشيء ، لأن إرادته الشيء يكون قبل أن يكون الشيء ، فأخبر أن إرادة الشيء يكون قبل قوله ، وقوله قبل الشيء ، إذا أراد شيئا كان بقوله : وقال : إنما أمره إذا أراد شيئا   . فالشيء ليس هو أمره ، ولكن الشيء كان بأمره سبحانه : إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون   . 
وقال تعالى : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم  فأخبرنا أنه شيء ، وهو تبارك اسمه وتعالى جده أكبر الأشياء ولا يدخل في  [ ص: 179 ] الأشياء المخلوقة . 
				
						
						
