الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              ثم إن الجهمية كذبت الآثار وجحدت الأخبار ، وطعنت على الرواة ، واتهموا أهل [ ص: 193 ] العدالة والأمانة ، وانتصحوا أهواءهم وآراءهم ، واتخذوا أهواءهم آلهة معبودة وأربابا مطاعة .

              فإذا وجدوا حديثا قد وهم المحدث في روايته وكان في ألفاظ متنه بعض التلبيس والتوهم ، انتحلوه دينا ، وجعلوه أصلا ، ووثقوا روايته وإن لم يعرفوه ، وصححوه وإن كانوا لا يثبتونه .

              فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن جامع بن شداد ، عن صفوان بن محرز ، عن عمران بن الحصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان الله قبل أن يخلق الذكر ، ثم خلق الذكر ، فكتب فيه كل شيء " .

              فقالت الجهمية : إن القرآن هو الذكر ، والله خلق الذكر ، فأما ما احتجوا به من هذا الحديث فإن أهل العلم وحفاظ الحديث ذكروا أن هذا الحديث وهم فيه محمد بن عبيد وخالف فيه أصحاب الأعمش وكل من رواه عنه .

              وبذلك احتج أحمد بن حنبل رحمه الله ، فقال : رواه بعده جملة من [ ص: 194 ] الثقات ، فلم يقولوا : خلق الذكر ، ولكن قالوا : كتب في الذكر ، والذكر هاهنا غير القرآن ، ولكن قلوب الجهمية في أكنة ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فلا يعرفون من الكتاب إلا ما تشابه ، ولا يقبلون من الحديث إلا ما ضعف وأشكل " .

              والذكر هاهنا هو اللوح المحفوظ ، الذي فيه ذكر كل شيء ، ألا ترى أن في لفظ الحديث الذي احتجوا به ، قال : فكتب فيه كل شيء أفتراه كتب في كلامه كل شيء ، وقد بين الله ذلك من كتابه ، وذلك أن الذكر في كتاب الله على لفظ واحد بمعان مختلفة ، فقال : ص والقرآن ذي الذكر ، - يعني : ذا الشرف .

              وقال : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم - يعني : شرفكم .

              وقال : بل أتيناهم بذكرهم - يعني : بخبرهم .

              وإنه لذكر لك ولقومك ، يقول : وإنه لشرف لك ولقومك .

              وقال : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله - يعني : الصلاة .

              وقال : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر - يعني : في اللوح - [ ص: 195 ] المحفوظ ، لا يجوز أن يكون الذكر هاهنا القرآن ، لأنه قال : في الزبور من بعد الذكر ، والزبور قبل القرآن ، والذكر أيضا هو القرآن في غير هذه الآيات كما أعلمتك ، إلا أن الحرف يأتي بلفظ واحد ، ومعناه شتى .

              والجهمي يقصد لما كانت هذه سبيله ، فيتأوله على المعنى الذي يوافق هواه ، ولا يجعل له وجها غيره ، والله يكذبه ويرد عليه هواه .

              ومما وضح به كفر الجهمي ما رده على الله وجحده من كتابه ، فزعم أن الله لم يقل شيئا قط ولا يقول شيئا أبدا .


              فيقال له : فأخبرنا عن كل شيء في القرآن : قال الله وقلنا ، ويوم نقول ، فقال : إنما هذا كله كما يقول الناس : قال الحائط فسقط ، وقالت النخلة فمالت ، وقالت النعل فانقطعت ، وقالت القدم فزلت ، وقالت السماء فهطلت ، والنخلة والحائط والسماء لم يقولوا من ذلك شيئا قط .

              فرد الجهمي كتاب الله الذي أخبر أنه عربي مبين ، وقال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ولسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لسان قرشي ، وهم أوضح [ ص: 196 ] العرب بيانا وأفصحها لسانا ، وهذا لم ينزل به القرآن ولم يتكلم به فصحاء العرب ، فحكموا على الله بما جرى على ألسنة عوام الناس ، وشبهوا الله تعالى بالحائط والنخلة والنعل والقدم .

              ويقال له : أرأيت من قال : سقط الحائط ، وهطلت السماء ، وزلت القدم ، ونبتت الأرض ، ولم يقل : قال الحائط ، ولا قالت السماء ، وأسقط قال وقالت في هذه الأشياء ، أيكون كاذبا في قوله ؟ أم يكون تاركا للحق في خطابه ؟

              فإذا قال : ليس بتارك للحق ، قيل له : فما تقول في رجل عمد إلى كل قال في القرآن مما حكاه الله عن نفسه أنه قال فمحاه ، هل يكون تاركا للحق أم لا ؟ فعندها يبين كفر الجهمي وكذبه .

              ومما يغالط به الجهمي جهال الناس والذين لا يعلمون ، أن يقول : خبرونا عن قول الله عز وجل : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيقول : خبرونا عن هذا الشيء ، أموجود هو أم غير موجود ؟

              فيقال له : إن معنى قوله : إذا أراد شيئا هو في علمه كائن بتكوينه إياه ، قال لذلك الذي قد علم أنه كائن مخلوق : كن كما أنت في علمي ، فيكون كما علم وشاء ، لأنه كان معلوما غير مخلوق ، فصار معلوما مخلوقا كما قال وشاء وعلم .

              ويقال للجهمي : ألست مقرا بأن الله تعالى إذا أراد شيئا قال له : كن فكان .

              فيقول : لا أقول ، إنه يقول فيرد كتاب الله ، ويكفر به ويقول : لا ، ولكنه [ ص: 197 ] إذا أراد شيئا كان ، فيقال له : يريد أن تقوم القيامة ، أن يموت الناس كلهم ، وأن يبعثوا كلهم ، فيكون ذلك بإرادته قبل أن يقال فيكون .

              وقال الجهمي : إن الله لم يتكلم قط ، ولا يتكلم أبدا .

              وقيل له : من يحاسب الخلق يوم القيامة ؟

              ومن القائل : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .

              ومن القائل : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .

              ومن القائل : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون .

              ومن القائل : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ؟

              ومن القائل : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ؟

              ومن القائل : إنه أنا الله العزيز الحكيم .

              ومن القائل : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ [ ص: 198 ]

              في أشباه لهذا تكثر على الإحصاء من مخاطبة الله عز وجل ، فيقول الجهمي : إن الله عز وجل يخلق يوم القيامة لكل إنسان حسابا ، فقيل للجهمي : هذا الخلق هو غير الله ؟ فقال : نعم .

              قيل له : فيقول الله لهذا الخلق : أخبر الناس بأعمالهم ؟ فقال : لا يقول له ، إن قلت إنه يقول ، فقد تكلم ، فقلنا : من أين يعلم هذا الخلق ما قد أحصاه الله من أعمال بني آدم والغيب لا يعلمه إلا الله ؟ فعند ذلك يتبين كفر الجهمي .

              ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر ابتغاء الفتنة ، فقال : إن الله عز وجل يقول : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم فعيسى كلمة الله وعيسى مخلوق .

              فقيل للجهمي : جهلك بكتاب الله وقبيح تأويلك قد صار بك إلى صنوف الكفر ، وجعلك تتقلب في فنون الإلحاد ، فكيف ساغ لك أن تقيس عيسى بالقرآن ؟ وعيسى قد جرت عليه ألفاظ وتقلبت به أحوال لا يشبه شيء منها أحوال القرآن . منها : أن عيسى حملته أمه ووضعته وأرضعته ، فكان وليدا ، ورضيعا ، وفطيما ، وصبيا ، وناشئا وكهلا وحيا ناطقا ، وماشيا وذاهبا ، وجائيا وقائما ، وقاعدا ، ويصوم ويصلي ، وينام ويستيقظ ، ويأكل الطعام ويشرب ، ويكون منه ما يكون من الحيوان إذا أكل وشرب . [ ص: 199 ]

              وبذلك أخبرنا الله تعالى عنه تكذيبا للنصارى حين قالوا فيه القول الذي يضاهي قولك أيها الجهمي ، فقال : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ، فكنى بالطعام عن خروج الحدث ، وهو مع هذا مخاطب بالتعبد وبالسؤال والوعد والوعيد ، ومحاسب يوم القيامة ، وأخبرنا أنه حي وميت ومبعوث ، فهل سمعت الله عز وجل وصف القرآن بشيء مما وصف عيسى ؟ فأما قوله عز وجل : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم قوله : كن ، فكان عيسى بقوله : كن ، وكذا قال عز وجل : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ، ثم أتبع ذلك بما يزيل عنه وهم المتوهم ، فقال : الحق من ربك فلا تكن من الممترين ، فكلمة الله قوله : كن والمكون عيسى عليه السلام ، والجهمي حريص على إبطال صفات ربه لإبطال آنيته ومما يدعيه الجهمي أنه حجة له في خلق القرآن قوله : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك . [ ص: 200 ]

              فقال الجهمي : فهل يذهب إلا مخلوق ؟ وكما قال : فإما نذهبن بك ، فالقرآن يذهب كما ذهب صلى الله عليه وسلم ، فأفحش الجهمي في التأويل وأتى بأنجس الأقاويل ، لأن قول الله : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك لم يرد أن القرآن يموت كما تموت ، إنما يريد : ولئن شئنا لنذهبن بحفظه عن قلبك وتلاوته عن لسانك .

              أما سمعت ما وعد به من حفظه للقرآن حين يقول : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ، فلو أذهب الله القرآن من القلوب ، لكان موجودا محفوظا عند من استحفظه إياه ، ولئن ذهب القرآن في جميع الخلق وأمات الله كل قارئ له ، فإن القرآن موجود محفوظ عند الله وفي علمه ، وفي اللوح المحفوظ .

              أما سمعت قول الله عز وجل : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .

              وقوله عز وجل : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية