الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              ومما احتج به الجهمي في خلق القرآن أن ، قال : أليس القرآن خيرا ؟ فإذا قيل له بلى ، قال : أفتقولون أن من الخير ما لم يخلقه الله ؟ فيتوهم بجهله أن له في هذه حجة ولا حجة فيه لأجل أن كلام الله خير ، وعلم الله خير ، وقدرة الله خير ، وليس كلام الله ولا قدرته مخلوقين لأن الله لم يزل متكلما ، فكيف يخلق كلامه ؟ ولو كان [ ص: 201 ] الله خلق كلامه لخلق علمه وقدرته ، فمن زعم ذلك ، فقد زعم أن الله كان ولا يتكلم ، وكان ولا يعلم ، فقالت الجهمية على الله ما لم يعلمه الله ولا ملائكته ولا أنبياؤه ، ولا أولياؤه ، فخالفهم كلهم .

              قال الله عز وجل : وإذ قال ربك للملائكة ، وإذ قلنا للملائكة ، وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ومثل هذا في القرآن كثير .

              وقول الملائكة : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق ، ولم يقولوا : ماذا خلق ربك قالوا الحق .

              وقال جبريل : قال كذلك قال ربك هو علي هين .

              وقول الله تعالى حين سألت بنو إسرائيل موسى عن أمر البقرة حين : قالوا ادع لنا ربك ، فقال موسى عليه السلام : إنه يقول في غير موضع .

              وقال أولياء الله : سلام قولا من رب رحيم . [ ص: 202 ]

              وقال أعداء الله في النار : فحق علينا قول ربنا ، فسمى الله قوله قولا ولم يسمه خلقا ، وسمت الملائكة قول الله قولا ولم تسمه خلقا ، وسمت الأنبياء قول الله قولا ولم تسمه خلقا ، وسمى أهل الجنة قول الله قولا ولم يسموه خلقا ، وسمى أهل النار قول الله قولا ولم يسموه خلقا ، وسمت الجهمية قول الله خلقا ولم تسمه قولا خلافا على الله وعلى ملائكته وعلى أنبيائه وعلى أوليائه .

              ثم إن الجهمية لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها موهوا بها على من لا يعرف الحديث ، مثل الحديث الذي روي : " يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب فيقول له القرآن : أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك فيأتي الله فيقول : أي رب! تلاني ووعاني وعمل بي " [ ص: 203 ] .

              والحديث الآخر : " تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان " ، فأخطأ في تأويله ، وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله : يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام ، يجيء ثواب ذلك كله ، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة .

              قال الله عز وجل : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر ، ليس يرى الخير [ ص: 204 ] والشر وإنما يرى ثوابهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب .

              كما قال عز وجل : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر ، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب .

              كما قال تعالى : من يعمل سوءا يجز به ، فيجوز في الكلام أن يقال : يجيء القرآن ، تجيء الصلاة ، وتجيء الزكاة ، يجيء الصبر ، يجيء الشكر ، وإنما يجيء ثواب ذلك كله يجزى من عمل السيء بالسوء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، أفترى يرى السرقة والزنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنما يرى العقاب والعذاب عليهما ، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثير .

              وأما ما جاءت به السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ظل المؤمن صدقته " ، فلا شيء أبين من هذا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل معروف صدقة " ، فإرشادك الضالة صدقة ، وتحيتك لأخيك بالسلام صدقة ، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط صدقة ، [ ص: 205 ] وأمرك بالمعروف صدقة ، ونهيك عن المنكر صدقة ، ومباضعتك لأهلك صدقة ، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظل مباضعته لأهله ؟ إنما عنى بذلك كله ثواب صدقته ، أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، فلينظر معسرا أو ليدع له " ، فأعلمك أن الظل من ثواب الأعمال .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية