ثم إن الجهمي إذا بطلت حجته فيما ادعاه ، ادعى أمرا آخر فقال : أنا أجد في الكتاب آية تدل على أن القرآن مخلوق ، فقيل له : أية آية هي ؟ 
قال : قول الله عز وجل : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث  أفلا ترون أن كل محدث مخلوق ؟ 
فوهم على الضعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموه عليهم ، فيقال له : إن الذي لم يزل به عالما لا يكون محدثا ، فعلمه أزلي كما أنه هو أزلي ، وفعله مضمر في علمه ، وإنما يكون محدثا ما لم يكن به عالما حتى علمه ، فيقول : إن الله عز وجل لم يزل عالما بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن وقبل أن يأتي به جبريل  وينزل به على محمد صلى الله عليه وسلم   .  
وقد قال : إني جاعل في الأرض خليفة  قبل أن يخلق آدم   [ ص: 184 ] وقال : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين   . 
يقول : كان إبليس في علم الله كافرا قبل أن يخلقه ، ثم أوحى بما قد كان علمه من جميع الأشياء . 
وقد أخبرنا عز وجل عن القرآن ، فقال : إن هو إلا وحي يوحى  فنفى عنه أن يكون غير الوحي ، وإنما معنى قوله : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث  ، أراد : محدثا علمه ، وخبره ، وزجره ، وموعظته عند محمد صلى الله عليه وسلم ،  وإنما أراد : أن علمك يا محمد  ومعرفتك محدث بما أوحي إليك من القرآن ، وإنما أراد : أن نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن سمعه علما وذكرا لم تكونوا تعلمونه . 
ألم تسمع إلى قوله : وعلمك ما لم تكن تعلم   . 
وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان   . 
وقال : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا   . 
فأخبر أن الذكر المحدث هو ما يحدث من سامعيه وممن علمه وأنزل عليه ، لا أن القرآن محدث عند الله ، ولا أن الله كان ولا قرآن ، لأن القرآن  [ ص: 185 ] إنما هو من علم الله ، فمن زعم أن القرآن هو بعد ، فقد زعم أن الله كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيء مما في القرآن ، ولا اسم له ، ولا عزة له ، ولا صفة له حتى أحدث القرآن . ولا نقول : إنه فعل الله ، ولا يقال : كان الله قبله ، ولكن نقول : إن الله لم يزل عالما لا متى علم ولا كيف علم ، وإنما وهمت الجهمية  الناس ولبست عليهم بأن يقول : أليس الله الأول قبل كل شيء ، وكان ولا شيء ، وإنما المعنى في : كان الله قبل كل شيء ، قبل السماوات وقبل الأرضين وقبل كل شيء مخلوق ، فأما أن نقول : قبل علمه ، وقبل قدرته ، وقبل حكمته ، وقبل عظمته ، وقبل كبريائه ، وقبل جلاله ، وقبل نوره ، فهذا كلام الزنادقة . 
وقوله : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث  ، فإنما هو ما يحدثه الله عند نبيه ، وعند أصحابه ، والمؤمنين من عباده ، وما يحدثه عندهم من العلم ، وما لم يسمعوه ، ولم يأتهم به كتاب قبله ، ولا جاءهم به رسول . 
ألم تسمع إلى قوله عز وجل : ووجدك ضالا فهدى  ، وإلى قوله فيما يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق  فأعلمنا أن القرآن يحدث نزوله لنا علما وذكرا وخوفا ، فعلم نزوله محدث عندنا وغير محدث عند ربنا عز وجل . 
ثم إن الجهمي حين بطلت دعواه وظهرت زندقته فيما احتج به ، ادعى أمرا آخر ووهم ولبس على أهل دعوته ، فقال : أتزعمون أن الله لم يزل والقرآن ؟ فإن  [ ص: 186 ] زعمتم أن الله لم يزل والقرآن ، فقد زعمتم أن الله لم يزل ومعه شيء . 
فيقال له : إنا لا نقول كما تقول ولا نقول : إن الله لم يزل ، والقرآن لم يزل ، والكلام لم يزل والعلم ، ولم يزل والقوة ، ولم يزل والقدرة ، ولكنا نقول كما قال : وكان الله قويا عزيزا  ، وكما قال : ذلك تقدير العزيز العليم   . 
فنقول : إن الله لم يزل بقوته ، وعظمته ، وعزته ، وعلمه ، وجوده ، وكرمه ، وكبريائه ، وعظمته ، وسلطانه ، متكلما عالما ، قويا ، عزيزا ، قديرا ، ملكا ، ليست هذه الصفات ولا شيء منها ببائنة منه ، ولا منفصلة عنه ، ولا تجزأ ولا تتبعض منه ، ولكنها منه وهي صفاته . 
فكذلك القرآن كلام الله ، وكلام الله منه ،  وبيان ذلك في كتابه : 
قال الله عز وجل : سلام قولا من رب رحيم   . 
وقال : ولكن حق القول مني   . 
وقال : فحق علينا قول ربنا   . 
وقد أخبرنا الله أن الأشياء إنما تكون بكلامه ، فقال : فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين   [ ص: 187 ]  . 
وقال : قلنا لا تخف   . 
وقال : قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم  ، فبقول الله عز وجل صار أولئك قردة ، وبقوله أمن موسى ،  وبقوله صارت النار بردا وسلاما . 
ثم إن الجهمي الملعون غالط من لا يعلم بشيء آخر ، فقال : قوله عز وجل : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها  ، فقال : كل ما أتى الله عز وجل بخير منه أو مثله ، فهو مخلوق . 
فكان هذا إنما غالط به الجهمي من لا يعلم ، وإنما أراد الله عز وجل بقوله : نأت بخير منها  يريد بخير لكم ، وأسهل عليكم في العمل وأنفع لكم في الفعل . 
ألا ترى أنه كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر الذي فيه الشدة ثم ينسخه بالسهولة والتخفيف ؟ 
من ذلك أن قيام الليل والصلاة كانت مفروضة فيه على أجزاء معلومة وأوقات من الليل في أجزائه مقسومة ، فعلم الله عز وجل ما على العباد في ذلك من الشدة والمشقة وقصور عملهم عن إحصاء ساعات الليل وأجزائه ، فنسخها بصلاة النهار وأوقاته . 
فقال عز وجل : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب  [ ص: 188 ] عليكم   . 
يقول : علم أن لن تطيقوه ، فنسخ ذلك ، فقال : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل  ، و : أقم الصلاة لدلوك الشمس   . 
ومن ذلك أن الصيام كان مفروضا بالليل والنهار ، وأن الرجل كان إذا أفطر ونام ثم انتبه لم يحل له أن يطعم إلى العشاء من القابلة فنسخ ذلك بقوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . . .  إلى قوله : فتاب عليكم وعفا عنكم . . .  إلى قوله : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر   . 
ومثل قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته  ، وكان هذا أمرا لا يبلغه وسع العباد ، فنسخ ذلك بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم  ، فهذا ونحوه كثير ، تركنا ذكره لئلا يطول الكتاب به ، أراد الله عز وجل بنزول الناسخ رفع المنسوخ ، وليكون في ذلك خيرة للمؤمنين وتخفيفا عنهم ، لا أنه يأتي بقرآن خير من القرآن الأول ، وإنما أراد خيرا لنا وأسهل علينا . 
ألم تسمع إلى قوله : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم  [ ص: 189 ] وعفا عنكم  ، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم  ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر   . 
فهذا وشبهه في القرآن كثير ، لا أن في القرآن شيئا خيرا من شيء ، ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقال : سورة كذا خير من سورة كذا ، وسورة كذا شر من سورة كذا . 
				
						
						
