الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولكن على داخل الحمام وظائف من السنن والواجبات فعليه واجبان في عورته وواجبان في عورة غيره .

أما الواجبان في عورته فهو أن يصونها عن نظر الغير ويصونها عن مس الغير فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده ويمنع الدلاك من مس الفخذ وما بين السرة إلى العانة وفي إباحة مس ما ليس بسوءة لإزالة الوسخ احتمال ولكن الأقيس التحريم إذ ألحق مس السوأتين في التحريم بالنظر فكذلك ينبغي أن تكون بقية العورة أعني الفخذين .

والواجبان في عورة الغير أن يغض بصر نفسه عنها وأن ينهى عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب وعليه ذكر ذلك وليس عليه القبول ولا يسقط عنه وجوب الذكر إلا لخوف ضرب أو شتم أو ما يجري عليه مما هو حرام في نفسه فليس عليه أن ينكر حراما يرهق المنكر عليه إلى مباشرة حرام آخر .

فأما قوله أعلم أن ذلك لا يفيد ولا يعمل به فهذا لا يكون عذرا بل لا بد من الذكر فلا يخلو قلب عن التأثر من سماع الإنكار واستشعار الاحتراز عند التعبير بالمعاصي وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه وتنفير نفسه فلا يجوز تركه ولمثل هذا صار الحزم ترك دخول الحمام في هذه الأوقات إذ لا تخلو عن عورات مكشوفة لا سيما ما تحت السرة إلى ما فوق العانة إذ الناس لا يعدونها عورة وقد ألحقها الشرع بالعورة وجعلها كالحريم لها ولهذا يستحب تخلية الحمام .

وقال بشر بن الحرث ما أعنف رجلا لا يملك إلا درهما دفعه ليخلي له الحمام .

ورؤي ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام ووجهه إلى الحائط ، وقد عصب عينيه بعصابة وقال بعضهم : لا بأس بدخول الحمام ، ولكن بإزارين إزار للعورة وإزار للرأس يتقنع به ويحفظ عينيه .

التالي السابق


(ولكن على داخل الحمام وظائف ) مقررة (من السنن والواجبات) ، أي : منها ما يقوم مقام السنة ومنها ما يقوم مقام الواجب (فعليه واجبان في عورته) نفسه الأول (وهو أن يصونها) ، أي : يحفظها (عن نظر الغير) إليها بأن لا يكشفها حتى يقع نظر الغير عليها سواء كان من قريب أو بعيد (و) الثاني أن (يصونها عن مس الغير) لها (فلا يتعاطى) ، أي : يتناول (أمرها وإزالة وسخها إلا بيده) من تحت الحائل (ويمنع الدلاك) ، وهو البلان (من مس الفخذ) بيده (وما بين السرة إلى العانة) ، وقد ورد في الحديث عند البخاري : الفخذ عورة ، وعند أحمد : غط فخذك ، فإنها عورة وما بين السرة إلى العانة ملحق بالعورة ، كما يأتي قريبا في كلام المصنف (وفي إباحة مس ما ليس بسوأة لإزالة الوسخ احتمال) في الجواز وعدمه (ولكن الأقيس) ، أي : الأشبه بالقياس أو أقيس القولين (التحريم إذا لحق مس السوأتين في التحريم بالنظر) فكما أنه لا يجوز النظر إليه كذلك لا يجوز مسه (فكذلك ينبغي أن تكون بقية العورة) في تحريم النظر والمس (والواجب) على الداخل في الحمام (في) حق (عورة الغير) أولا (أن يغض بصر نفسه عنها) بعدم التطلع لها إن وجدها مكشوفة .

ثانيا (أن ينهى) ذلك الرجل (عن كشفها) ولا يسكت [ ص: 401 ] (لأن النهي عن الكشف واجب) ؛ لأنه من جملة النهي عن المنكر (وعليه ذكر ذلك) لسانا (وليس عليه القبول) ، أي : ليس من شرط النهي عن المنكر أن يقبل المخاطب النهي أو الأمر (ولا يسقط عنه وجوب الذكر) بحال من الأحوال (إلا لخوف ضرب) من المخاطب حالا أو بعد الخروج منه (أو) خوف (شتم) يصدر منه في حقه (أو ما يجري عليه مما هو حرام في نفسه) مما هو أشد من كشف العورة (فليس) واجبا (عليه أن ينكر حراما يزهق) ، أي : يلجئ (المنكر عليه إلى مباشرة حرام آخر) فيوقعه في حرج شديد (فأما قوله) : أنا (أعلم أن ذلك) الإنكار عليه والنهي عما هو فيه (لا يفيد) فيه (ولا يعمل به) ، كما هو ديدن الناس اليوم (فهذا لا يكون عذرا) مسقطا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بل لا بد من الذكر) باللسان والتصريح به ، لكن بشرط أن يكون بنية إقامة الواجب عاريا عن عداوة أو غرض وأن يكون بمداراة واستمالة قلب بأن يذكر له أن العلماء صرحوا بأن كشف العورة حرام وأن الناظر إليها ملعون والذي يتسبب لكشفها كذلك ملعون وليجتنب عن الغلظة في الخطاب ليكون أدعى للقبول وأقرب إلى الإذعان ، وإن كان يحصل المقصود بالتلويح والتعريض من قبيل إياك أعني فاسمعي يا جارة فلا بأس بذلك (فلا يخلو قلب) من قلوب المؤمنين (عن التأثر من سماع الإنكار) والمبادرة لقبوله (واستشعار الاحتراز عند التعيير) ، أي : التعييب (بالمعاصي) ، أي : إذا عير الإنسان بمعصية ، فإنه لا محالة يستشعر الاحتراز عنها لما جبلت النفوس على الفرار من تعييرها بها (وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه) وتحسينه لتركه (وتنفير نفسه عنه فلا يجوز تركه) لأجل ذلك (ولمثل هذا) وأمثاله في المنكرات (صار الحزم) والرأي الصائب (ترك دخول الحمام في هذه الأوقات) ، وهذا في زمانه فكيف في زماننا ومن قبل هذا الوقت فقد صار المعروف منكرا والمنكر معروفا ولا حول ولا قوة إلا بالله (إذ لا يخلو عن عورات مكشوفة) غالبا ولو من خدمة الحمام ، فإنهم لا يبالون فيها (لا سيما ما تحت السرة إلى ما فوق العانة) وهي منبت الشعر (إذ الناس لا يعدونها عورة) فلا ينفكون عن كشفها (وقد ألحقها الشرع بالعورة وجعلها كالحريم لها) ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، وفي بعض النسخ بتذكير الضمير في المواضع الثلاثة (ولهذا يستحب تخلية الحمام) بأجرة معينة .

(وقال بشر بن الحرث) الحافي رحمه الله تعالى : (ما أعنف) من التعنيف ويوجد في بعض النسخ ما أعرف ، وهو غلط (رجلا لا يملك إلا درهما دفعه) للحمامي (ليخلي له الحمام) ، أي : أستحسن فعله ذلك ولا أعنف عليه ؛ إذ قصده جميل ، وكان بشر يعطي ليخلى له الحمام ، وكان يغلقه عليه من داخل ومن خارج (ورئي ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام ووجهه إلى الحائط ، وقد عصب) ، أي : ربط على (عينيه بعصابة) خوفا من وقوع بصره على ما يحرم النظر إليه .

(وقال بعضهم : لا بأس بدخول الحمام ، ولكن بإزارين إزار للعورة (يستر به عليها بأن يشده فوق سرته ويرخيه إلى أسافل الساقين (وإزار للرأس يتقنع به) ، أي : يجعله كقناع المرأة على رأسه (ويحفظ عينيه) ويروى في مناقب الإمام أبي حنيفة أنه دخل الحمام مرة عاصبا على عينيه فقال له بعض المتهورين : متى عميت عينك يا إمام ؟ فقال : مذ كشفت عورتك وأورده صاحب القوت ونسبه إلى الأعمش قال : دخل الأعمش الحمام فرأى عريانا فغمض عينيه وجعل يلتمس الحيطان فقال له العريان : متى كف بصرك يا هذا ؟ فقال : منذ هتك الله سترك .



(تنبيه)

قال العراقي : يباح كشف العورة في الخلوة في حالة الاغتسال مع إمكان التستر ، وبه قال الأئمة الأربعة وجمهور العلماء من السلف والخلف وخالفهم ابن أبي ليلى فذهب إلى المنع منه ، واحتج بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : لا تدخلوا الماء إلا بمئزر ، فإن للماء عامرا ، وهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، وإن صح فهو محمول على الأكل ، وذكر ابن بطال بإسناد فيه جهالة أن ابن عباس لم يكن يغتسل في بحر ولا نهر إلا وعليه إزار ، فإذا سئل عن ذلك قال : إن له عامرا قال : وروى برد عن مكحول عن عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اغتسل بليل في فضاء فليتحاذر على عورته ومن لم يفعل ذلك فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه ، وفي مرسلات الزهري عن النبي [ ص: 402 ] صلى الله عليه وسلم قال : لا تغتسلوا في الصحراء إلا أن تجدوا متوارى فإن لم تجدوا متوارى فليخط أحدكم كالدائرة ، ثم يسمي الله ويغتسل فيها ، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري قال : إني لأغتسل في البيت المظلم فأحني ظهري إذا أخذت ثوبي حياء من ربي وعنه أيضا ما أقمت صلبي في غسلي منذ أسلمت .



(فصل)

وفي المدخل لابن الحاج قال ابن رشد في معنى كراهة مالك الغسل من ماء الحمام ثلاث معان أحدها أنه لا يأمن من أن تنكشف عورته فيراها غيره أو تنكشف عورة غيره فيراها هو ؛ إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع الناس لقلة تحفظهم ، وهذا إذا دخل مستتر مع مستترين ، وأما من دخل غير مستتر مع من لا يستتر فلا يحل ذلك ومن فعله فذلك جرحة في حقه وقدح في شهادته المعنى الثاني أن ماء الحمام غير مصان عن الأيدي والغالب أن يدخل يده فيه من لا يتحفظ من النجاسات مثل الصبي الصغير والكبير الذي لا يعرف ما يلزمه من الأحكام فيصير الماء مضافا فتسلبه الطهورية .

الثالث : أن ماء الحمام يوقد عليه بالنجاسات والأقذار فقد يصير الماء مضافا من دخانها فتسلبه الطهورية اهـ ، ثم قال ابن الحاج ، وهذا حال أهل وقتنا في الغالب ، وهو أن يدخل مستور العورة مع مكشوف العورة على أنه قد ذكر بعض الناس أنه يجوز دخول الحمام ، وإن كان فيه من هو مكشوف العورة ويصون نظره وسمعه ، كما أنه يجوز له الاغتسال في النهر ، وإن كان يجد ذلك فيه ، وكما يجوز له أن يدخل في المساجد وفيها ما فيها قال ابن الحجاج : وما ذكره مالك محمول على زمانه الذي كان فيه ، وأما زماننا فمعاذ الله أن يجيزه هو أو غيره لما فيه من المحرمات فيتعين على المكلف أن يتركه ما استطاع جهده وما ذكره من الغسل في النهر والدخول في المساجد وفيها ما فيها فغير وارد ؛ لأن المكلف يكره له أن يدخلها ابتداء إلا أن يضطر إليها مع أن الغالب في هذا الوقت أن شاطئ النهر فيه من كشف العورات ما هو مثل الحمام أو أعظم منه على ما هو مشاهد مرئي من كشف عورات النواتية ومن يفعل كفعلهم سيما إن كان في زمن الصيف فذلك أكثر وأشنع لورود الناس للغسل وغيره وقل من يستتر فلا حاجة تدعو إلى الكلام على ذلك لحصول المشاهدة وما أتى على بعض المتأخرين إلا أنهم يحملون ألفاظ العلماء على عرفهم في زمانهم وليس الأمر كذلك ، بل كل زمان يختص بعرفه وعادته ، وكذلك يجري هذا المعنى في الفساقي التي في الرباطات والمدارس ؛ إذ إنها محل كشف العورات في هذا الزمان ، ومن ذلك ما يجده في الحمام في الغالب من الصور التي على بابه والتي في جدرانه وأقل ما يجب عليه من التغيير من إزالة رؤوسها فيتعين عليه إنكار ذلك والأخذ على يد فاعله إلى غير ذلك من المفاسد وهي بينة والله الموفق .




الخدمات العلمية