الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهما حادثان ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث .

ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى .

الأولى قولنا إن : الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون ، وهذه مدركة بالبديهة والاضطرار ، فلا يحتاج فيها إلى تأمل وافتكار ، فإن من عقل جسما لا ساكنا ولا متحركا كان لمتن الجهل راكبا وعن نهج العقل ناكبا .

الثانية : قولنا : إنهما حادثان ويدل على ذلك تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد البعض وذلك مشاهد في جميع الأجسام ما شوهد منها ، وما لم يشاهد فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه فالطارئ ، منهما حادث لطريانه ، والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قدمه لاستحال عدمه على ما سيأتي بيانه وبرهانه في إثبات بقاء الصانع تعالى وتقدس .

الثالثة قولنا : ما يخلو عن الحوادث فهو حادث ، وبرهانه أنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ولو لم تنقض تلك الحوادث بجملتها لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال وانقضاء ما لا نهاية له محال .

التالي السابق


(وهما حادثان، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى) جمع دعوى، وهو قول يطلب به الإنسان إثبات حق (الأولى: أن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون، وهذه) ظاهرة (مدركة بالبديهة والاضطرار، فلا تحتاج إلى تأمل وافتكار، فإن من عقل جسما لا ساكنا ولا متحركا كان لمتن الجهل راكبا) أي: سالكا طريق الجهالة (وعن نهج العقل) أي: طريقه (ناكبا) ، أي: معرضا، وهذا السياق للمصنف مأخوذ من سياق شيخه إمام الحرمين في الرسالة النظامية .

الدعوى (الثانية: قولنا: إنهما حادثان) ، وقد استدل عليها المصنف بطريقتين، أشار إلى الأولى منهما بقوله: (يدل على ذلك تعاقبهما) أي: كون كل واحد منهما يعقب الآخر، أي: يخلفه في محله عند ذهابه (ووجود البعض منهما دون البعض) وانقضاؤهما، أي: ذهاب كل منهما عند وجود الآخر، (وذلك) أي: التعاقب والانقضاء (مشاهد في جميع الأجسام، وما لم يشاهد) من الأجسام إلا ساكنا أو متحركا .

(فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته) كالجبال مثلا، فالعقل قاض بجواز الحركة فيها بزلزلة مثلا، وكذا قاض عليها بقلبها ذهبا أو فضة أو نحاسا أو حديدا (وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه، فالطارئ منهما حادث بطريانه، والسابق حادث لعدمه) أي: تجويز ما ذكر من الحركة والقلب بتجويز عروض الحوادث على محلها، ومحل الحوادث حادث.

ثم أشار إلى الطريق الثاني في الاستدلال بقوله: (لأنه) أي: السابق من الحركة والسكون (لو ثبت قدمه لاستحال عدمه) وتجويز طريان الضد على محل هو تجويز العدم على ضده الذي كان بذلك المحل أولا، ضرورة أن الضدين يمتنع عقلا اجتماعهما بمحل، فالتجويز المذكور باعتبار النظر إلى الضد الطارئ تجويز الطريان، وبالنظر إلى ضده هو تجويز العدم على هذا الضد، قال ابن أبي شريف في "شرح المسايرة": والأولى أن تجويز الطريان يستلزم تجويز العدم، لا أنه هو (على ما سيأتي بيانه وبرهانه) في الأصل الثالث (في إثبات بقاء الصانع تعالى وتقدس) وأن وجوده مقتضى ذاته، فلا يختلف عنها .

الدعوى (الثالثة) وهي (قولنا: ما لا يخلو عن الحوادث فهو محدث، وبرهانه) أنه (لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها) مرتبة كما يقول الفلاسفة في دورات الأفلاك، أي: حركاتها اليومية (ولو لم تنقض تلك بجملتها) أي: ما لا أول له من الحوادث (لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث [ ص: 92 ] الحاضر في الحال) ؛ لأن الحركة اليومية المعنية مشروط وجودها بانقضاء ما قبلها، وكذلك الحركة التي قبلها مشروطة بمثل ذلك، وهلم جرا (وانقضاء ما لا نهاية له) ووقع في نسخ المسايرة: ما لا أول له، بدل ما لا نهاية له (محال) ؛ لأنك إذا لاحظت الحادث الحاضر، ثم انتقلت إلى قلبه فلاحظته، وهلم جرا على الترتيب، لم تفض إلى نهاية، ودخول ما لا نهاية له من الحوادث في الوجود محال، وإن لم يكن عدم إفضائك إلى نهاية لكان لتلك الحوادث أول، وهو خلاف المفروض .




الخدمات العلمية