الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وإذا عرفت هذه الانقسامات اتضح لك أن هذه الحجة المحمودة في الكلام إنما هي من جنس حجج القرآن من الكلمات اللطيفة المؤثرة في القلوب المقنعة للنفوس دون التغلغل في التقسيمات والتدقيقات التي لا يفهمها أكثر الناس وإذا فهموها اعتقدوا أنها شعوذة وصناعة تعلمها صاحبها للتلبيس فإذا قابله مثله في الصنعة قاومه .

التالي السابق


(وإذا عرفت هذه الانقسامات اتضح لك أن هذه الحجة المحمودة في الكلام إنما هو من جنس حجج القرآن) والأخبار الصحيحة (من الكلمات اللطيفة) المختصرة (المؤثرة في القلوب) بوقعها (المقنعة للنفوس) الكافية لها (من دون التغلغل) والخوض (في التقسيمات) الغريبة (والتدقيقات) العجيبة (التي لا يفهمها أكثر الناس) ولا يحوم فكرهم حولها (وإذا فهموها) بعد جهد (اعتقدوا أنها شعوذة) لا حقيقة لها (وصناعة تعلمها للتلبيس) والتخليط (فإذا قابله مثله في الصنعة قاومه) .

قال المصنف في "إلجام العوام": العامي إذا منع من البحث والنظر ولم يعرف الدليل، كان جاهلا بالمدلول، وقد أمر الله كافة عباده بمعرفته بالإيمان به والتصديق بوجوده أولا، وبتقديسه عن سمات الحوادث ومشابهة غيره ثانيا، وبوحدانيته ثالثا، وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعا، وهذه الأمور ليست ضرورية، فهي إذا مطلوبة، وكل علم مطلوب، ولا سبيل إلى اقتناصه وتحصيله إلا بالأدلة، فلا بد من النظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب، وكيفية إنتاجها له، وذلك لا يتم إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب [ ص: 64 ] المقدمات، واستنتاج النتائج، ويستجر ذلك بالضرورة شيئا فشيئا إلى تمام البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في علم المعقولات، وكذلك يجب على العامي أن يصدق الرسول في كل ما جاء به، وصدقه ليس بضروري، بل هو بشر كسائر الخلق، فلا بد من دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذبا، ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في معجزاته، ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات، وهو ثلث علم الكلام .

قلنا: الواجب على الخلق الإيمان بهذه الأمور، والإيمان عبارة عن تصديق جازم لا تردد فيه، ولا يشعر صاحبه بجواز وقوع الخطأ فيه، وهذا التصديق يحصل على ست مراتب:

الأولى: وهو أقصاها: ما يحصل بالبرهان المستقصي المستوفي بشروطه المحرر بأصوله ومقدماته درجة درجة كلمة كلمة، حتى لا يبقى مجال احتمال وممكن التباس، وذلك هو الغاية القصوى، وربما يتفق في كل عصر واحد واثنان ممن ينتهي إلى تلك الدرجة، وقد يخلو العصر عنه، ولو كانت النجاة مقصورة على مثل تلك المعارف لقلت النجاة وقل الناجون .

الثانية: أن يحصل بالأدلة الرسمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها؛ لاشتهارها بين أكابر العلماء، وشناعة إنكارها، ونفرة النفوس عن إبداء المزيد فيها، وهذا الجنس أيضا يفيد في بعض الأمور، وفي حق الناس تصديقا جازما، بحيث لا يتغير صاحبه بإمكان خلافه أصلا .

الثالثة: أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية التي جرت العادة باستعمالها في المحاورة والمخاطبات الجارية في العادات، وذلك يفيد في حق الأكثرين تصديقا ببادئ الرأي وسابق الفهم، إذا لم يكن الباطن مشحونا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل، ولم يكن المستمع مشغوفا بتكلف المماراة والتشكيك، ومنهاجه بتحذلق المجادلين في العقائد، وأكثر أدلة القرآن من هذا الجنس من الدليل الظاهر المفيد للتصديق، والدليل المستوفي هو الذي يفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها، بحيث لا يبقى للسؤال مجال، والتصديق يحصل قبل ذلك .

الرابعة: التصديق بوجود السماع ممن حسن فيه الاعتقاد بسبب كثرة ثناء الخلق؛ فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو رجل من الأفاضل المشهورين قد يخبر عن شيء فيسبق إليه اعتقاد جازم وتصديق بما أخبر عنه، بحيث لا يبقى مجال لغيره في قلبه، ومستنده حسن اعتقاده فيه، وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلمهم، فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدقونه ويستمرون عليه من غير حاجة إلى دليل ومحاجة .

الخامسة: التصديق الذي يسبق إليه عند سماع الشيء مع قرائن الأحوال لا يفيد القطع عند المحقق، ولكن يلقى في حق العوام اعتقادا جازما .

السادسة: أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه فيبادر إلى التصديق بمجرد موافقته لطبعه، لا من حسن اعتقاد في قائله، ولا من قرينة تشهد له، لكن لمناسبة ما في طبعه، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات; لأن ما قبله استند إلى دليل ما، وإن كان ضعيفا من قرينة، أو حسن اعتقاد في المخبر، أي نوع من ذلك فهي أمارات يظنها العامي أدلة، فتعمل في حقه عمل الأدلة .

وإذا علم مراتب التصديق وعلم أن مستند إيمان العوام هذه الأسباب، فأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجرى مجراه مما يحول القلب إلى التصديق، فلا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن، وما في معناه من الجليات المقنعة المسكنة للقلوب المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق، فما وراء ذلك ليس على قدر طاقته. اهـ. باختصار .




الخدمات العلمية