الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال أو مما كانت له من قبل ثم بالمقايسة إليه يفهم ذلك لغيره ثم قد يصدق بأن بينهما تفاوتا في الشرف والكمال فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق بأن ذلك أكمل وأشرف فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " وليس المعنى أني : أعجز عن التعبير عما أدركته ؛ بل هو اعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله .

ولذلك قال بعضهم ما عرف الله بالحقيقة سوى الله عز وجل .

التالي السابق


(وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال) موجودة لديه (أو مما كانت له من قبل) فيتذكرها (ثم بالمناسبة إليه يفهم ذلك لغيره) مقايسة (ثم) إنه (قد يصدق) في نفسه (بأن بينهما تفاوتا) وتمييزا (في الشرف والكمال) والعلو (فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيره من الصفات) التي يتوهم فيها الاشتراك (مع التصديق) الجازم (بأن ذلك) أي: ما ثبت لله تعالى (أكمل وأشرف) وأعلى (فيكون معظم تحويمه) وتعريجه (على صفات نفسه) فقط (لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال) والعظمة .

قال المصنف في "المقصد الأسنى": ولا ينبغي أن يظن أن المشاركة بكل وصف توجب المماثلة، أترى إلى الضدين يتماثلان وبينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه، وهما متشاركان في أوصاف كثيرة؛ إذ السواد يشارك البياض في كونه عرضا، وفي كونه مدركا بالبصر، وأمورا أخرى سواه، أفترى من قال: إن الله تعالى موجود لا في محل، وأنه سميع بصير عالم مريد متكلم حي قادر فاعل، وللإنسان أيضا كذلك، فقد شبه قائل هذا، إذ لا أقل من إثبات المشاركة في الوجود وهو موهم للمشابهة، بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية، فكون العبد رحيما صبورا شكورا لا يوجب المماثلة، ولا لكونه سميعا عالما قادرا حيا فاعلا. اهـ .

(ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك") أخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك في سجوده، قاله العراقي .

قلت: قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة، عن عبد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، وأخرجه الإمام أحمد عن أبي أسامة، قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار: وفي السند لطيفة، وهي رواية صحابي عن صحابي، أبو هريرة عن عائشة.

(وليس المعنى: إني أعجز عن التعبير عما أدركت؛ بل هو اعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله) وقال المصنف في "المقصد الأسنى": ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه، بل معناه: إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك، فإذا لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة، وأما اتساع المعرفة فإنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته. اهـ .

(ولذلك قال بعضهم) وهو أبو القاسم الجنيد -رحمه الله تعالى- كما صرح به المصنف في المقصد الأسنى (ما عرف الله بالحقيقة سوى الله عز وجل) قال المصنف: بل أقول: يستحيل أن يعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- غير النبي، وأما من لا نبوة له أصلا فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وإنها خاصية موجودة لإنسان، بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا النبي خاصة، فأما من ليس بنبي فلا يعرفها ألبتة، ولا يفهمها إلا بالتشبيه بصفات نفسه، بل أزيد وأقول: لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة والنار، قال في موضع آخر منه: الخاصية الإلهية ليست إلا لله تعالى، ولا يعرفها إلا الله تعالى، ولا يتصور ألا يعرفها إلا هو أو من هو مثله، وإذا لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره، فإذا الحق ما قاله الجنيد: لا يعرف الله إلا الله تعالى؛ ولذلك لم يعط أجل خلقه إلا أسماء حجبه، فقال : سبح اسم ربك الأعلى ، فوالله ما عرف الله غير الله، في الدنيا والآخرة، وقيل لذي النون -وقد أشرف على الموت-: ماذا تشتهي؟ قال: أن أعرفه قبل أن أموت ولو بلحظة. اهـ .




الخدمات العلمية