الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 114 ] ( ولا بأس بالسلم في طست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك إذا كان يعرف ) لاستجماع شرائط السلم ( وإن كان لا يعرف فلا خير فيه ) لأنه دين مجهول . قال ( وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا ) للإجماع الثابت بالتعامل .

وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم ، والصحيح أنه يجوز بيعا لا عدة ، [ ص: 115 ] والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما ، والمعقود عليه العين دون العمل ، حتى لو جاء به مفروغا لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز ، [ ص: 116 ] ولا يتعين إلا بالاختيار ، حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز ، وهذا كله هو الصحيح .

قال ( وهو بالخيار إذا رآه ، إن شاء أخذه ، وإن شاء تركه ) لأنه اشترى شيئا لم يره ولا خيار للصانع ، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح ، لأنه باع ما لم يره . وعن أبي حنيفة رحمه الله أن له الخيار أيضا لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر وهو قطع الصرم وغيره . وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما . أما الصانع فلما ذكرنا .

وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرارا بالصانع لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب لعدم المجوز وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم ، وإنما قال بغير أجل لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة خلافا لهما ، ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق . لهما أن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته ويحمل الأجل على التعجيل ، [ ص: 117 ] بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح . ولأبي حنيفة أنه دين يحتمل السلم ، وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة فكان الحمل على السلم أولى ، والله أعلم .

التالي السابق


( قوله ولا بأس بالسلم في طست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك ) كالكوز والآنية من النحاس والزجاج والحديد والقلنسوة والطواجن إذا ضبط واستقصى في صفته من الغلط والسعة والضيق بحيث ينحصر فلا يتفاوت إلا يسيرا ( قوله وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا ) الاستصناع طلب الصنعة وهو أن يقول لصانع خف أو مكعب أو أواني الصفر اصنع لي خفا طوله كذا وسعته كذا أو دستا : أي برمة تسع كذا وزنها كذا على هيئة كذا بكذا ويعطي الثمن المسمى أو لا يعطي شيئا فيعقد الآخر معه جاز استحسانا تبعا للعين . والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي ، إذ لا يمكن إجارة لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير ، وذلك لا يجوز [ ص: 115 ] كما لو قال احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا ، أو اصبغ ثوبك أحمر بكذا لا يصح ولا بيعا لأنه بيع معدوم ، ولو كان موجودا مملوكا لغير العاقد لم يجز ، فإذا كان معدوما فهو أولى بعدم الجواز ، ولكنا جوزناه استحسانا للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير ، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم { لا تجتمع أمتي على ضلالة } { وقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما . واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام }

مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد . ومثله شرب الماء من السقاء ، وسمع صلى الله عليه وسلم بوجود الحمام فأباحه بمئزر ولم يبين له شرطا . وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه الآن ، وهو أن لا يذكر عدد ما يصبه من ملء الطاسة ونحوها فقصرناه على ما فيه تعامل ، وفيما لا تعامل فيه رجعنا فيه إلى القياس كأن يستصنع حائكا أو خياطا لينسج له أو يخيط قميصا بغزل نفسه . ثم اختلف المشايخ أنه مواعدة أو معاقدة ، فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور مواعدة ، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي ولهذا كان للصانع أن لا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم ، وللمستصنع أن لا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه ، ولا تلزم المعاملة وكذا المزارعة على قول أبي حنيفة لفسادهما مع التعامل لثبوت الخلاف فيهما في الصدر الأول ، وهذا كان على الاتفاق .

والصحيح من المذهب جوازه بيعا لأن محمدا ذكر فيه القياس والاستحسان وهما لا يجريان في المواعدة ، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه ، ولو كان مواعدة جاز في الكل ، وسماه شراء فقال : إذا رآه المستصنع فهو بالخيار لأنه اشترى ما لم يره ، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها ولو كانت مواعيد لم يملكها وإثبات أبي اليسر الخيار لكل منهما لا يدل على أنه غير بيع ، ألا ترى أن في بيع المقايضة لو لم ير كل منهما عين الآخر كان لكل منهما الخيار وحين لزم جوازه علمنا أن الشارع اعتبر فيها المعدوم موجودا وفي الشرع كثير كذلك كطهارة المستحاضة وتسمية الذابح إذا نسيها والرهن بالدين الموعود وقراءة المأموم . وقوله ( والمعقود عليه العين دون العمل ) نفي لقول أبي سعيد البردعي المعقود عليه العمل لأن الاستصناع ينبئ عنه كما قلنا ، والأديم والصرم بمنزلة [ ص: 116 ] الصبغ ، والدليل عليه ما ذكرناه من قول محمد لأنه اشترى ما لم يره ، ولذا لو جاء به مفروغا لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز ، وإنما نبطله بموت الصانع لشبهه بالإجارة .

وفي الذخيرة : وهو إجارة ابتداء بيع انتهاء ، لكن قبل التسليم لا عند التسليم بدليل أنهم قالوا : إذا مات الصانع يبطل ولا يستوفى المصنوع من تركته ، ذكره محمد في كتاب البيوع . فإن قيل : لو انعقد إجارة أجبر الصانع على العمل والمستصنع على إعطاء المسمى . [ ص: 117 ] أجيب بأنه إنما لم يجبر الصانع لأنه لا يمكنه إلا بإتلاف عين له من قطع الأديم ونحوه ، والإجارة تفسخ ففسخ بهذا العذر ، ألا ترى أن المزارع له أن لا يعمل إذا كان البذر من جهته ، وكذا رب الأرض لأنه لا يمكنه المضي بهذه الإجارة إلا بذلك والمستصنع ولو شرط تعجيله لأن هذه الإجارة في الآخرة كشراء ما لم يره ، ولأن جواز الاستصناع للحاجة وهي في الجواز لا اللزوم ، ولذا قلنا للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع لأن العقد غير لازم وأما بعد ما رآه فالأصح أنه لا خيار للصانع ، بل إذا قبله المستصنع أجبر على دفعه له لأنه بالآخرة بائع ، والله أعلم .




الخدمات العلمية