الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 344 ] قال ( وإذا قسم الميراث بين الغرماء والورثة فإنه لا يؤخذ منهم كفيل ولا من وارث وهذا شيء احتاط به بعض القضاة وهو ظلم ) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : يؤخذ الكفيل ، والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة ولم يقل الشهود لا نعلم له وارثا غيره . [ ص: 345 ] لهما أن القاضي ناظر للغيب ، والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا ، لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة . كما إذا دفع الآبق واللقطة إلى [ ص: 346 ] صاحبه وأعطى امرأة الغائب النفقة من ماله . ولأبي حنيفة رحمه الله أن حق الحاضر ثابت قطعا ، أو ظاهرا فلا يؤخر لحق موهوم إلى زمان التكفيل كمن أثبت الشراء ممن في يده أو أثبت الدين على العبد حتى بيع في دينه لا يكفل ، ولأن المكفول له مجهول فصار كما إذا كفل لأحد الغرماء [ ص: 347 ] بخلاف النفقة لأن حق الزوج ثابت وهو معلوم .

وأما الآبق واللقطة ففيه روايتان ، والأصح أنه على الخلاف . وقيل إن دفع بعلامة اللقطة أو إقرار العبد يكفل بالإجماع لأن الحق غير ثابت ، ولهذا كان له أن يمنع . وقوله ظلم : أي ميل عن سواء السبيل ، وهذا يكشف عن مذهبه رحمه الله أن المجتهد يخطئ ويصيب لا كما ظنه البعض .

التالي السابق


( قوله وإذا قسم الميراث بين الغرماء ) أو بين الورثة ( لا يؤخذ منهم كفيل ) عند أبي حنيفة ( و ) قال ( هذا شيء احتاط فيه بعض القضاة وهو ظلم ) كأنه عنى به ابن أبي ليلى فإنه كان يفعله بالكوفة ( وقالا : يؤخذ الكفيل ) أي لا يدفع إليهم حتى يكفلوا ( والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة ولم يقل الشهود لا نعلم له وارثا غيره ) أما إذا ثبتا بالإقرار فيؤخذ [ ص: 345 ] الكفيل بالاتفاق ، وإذا قال الشهود لا نعلم له وارثا غيره لا يكفل بالاتفاق ولا يتأنى القاضي سواء كان ذلك الوارث ممن يحجب أو لا يحجب ، ولو قالوا لا وارث له غيره فكذلك استحسانا .

ثم ما ذكر من نفي الدفع إذا لم يقل الشهود لا نعلم له وارثا آخر هو فيما إذا كان وارثا لا يحجب بغيره ، وتفصيل المسألة في أدب القاضي للصدر الشهيد قال : وإذا حضر الرجل وادعى دارا في يد رجل أنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا له وأقام على ذلك بينة ولم يشهدوا على عدد الورثة ولم يعرفوهم بل قالوا وتركها لورثته لا تقبل ولا يدفع إليه شيئا حتى يقيم بينة على عدد الورثة ليصير نصيب هذا الواحد معلوما ، والقضاء بغير المعلوم متعذر .

وهنا ثلاثة فصول : الأول هذا ، وهو ما إذا لم يشهدوا على عدد الورثة ولم يعرفوهم . والثاني أن يشهدوا أنه ابنه ووارثه لا نعلم له وارثا غيره ، فإن القاضي يقضي بجميع التركة بلا تلوم ، الثالث أن يشهدوا أنه ابن فلان مالك هذه الدار ولم يشهدوا على عدد الورثة ولم يقولوا لا نعلم له وارثا غيره فإن القاضي يتلوم زمانا على قدر ما يرى ، فإن حضر وارث آخر قسم المال بينهم ، وإن لم يحضر دفع الدار إليه ويأخذ كفيلا عندهما . ولا يأخذ عند أبي حنيفة رضي الله عنه ثم إنما يدفع إلى الوارث الذي حضر جميع المال إذا كان ممن لا يحجب كالأب والابن ، فإن كان يحجب بغيره كالجد والأخ والعم لا يدفع إليه ، وإن كان ممن يحجب حجب نقصان كالزوج والزوجة يدفع إليه أقل النصيبين عند أبي يوسف ، وعند محمد أوفرهما وهو النصف للزوج والربع للزوجة . وقول أبي حنيفة مضطرب .

هذا إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة ، فأما إذا ثبت بالإقرار فيؤخذ الكفيل بالاتفاق . ومن صوره ما إذا أقر المودع لرجل أنه ابن الميت ولم يزد عليه فالقاضي يتأنى على حسب ما يرى ولا تقدير فيه ، وهو أليق بقول أبي حنيفة رحمه الله وهو أن ينتظر زمانا يغلب على ظنه أنه لو كان له ابن آخر لظهر ، وقدره الطحاوي بعام ، فإن لم يظهر وارث آخر دفع المال وأخذ كفيلا لاحتمال أن يظهر وارث آخر .

قيل هذا قولهما ، وعند أبي حنيفة لا يأخذ ، وقيل يأخذ عند الكل لأن الثابت بالإقرار دون الثابت بالبينة ( لهما أن القاضي ناظر للغيب ) أي مأمور بالنظر لهم ( والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا ، لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة ، كما إذا دفع ) القاضي ( الآبق واللقطة إلى ) [ ص: 346 ] الذي أثبت عنده أنه ( صاحبه ) أخذ كفيلا للمعنى الذي ذكرنا وهو أن القاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه ( و ) كذا إذا ( أعطى امرأة الغائب ) يعني إذا كانت تستنفق : أي تطلب ( النفقة ) وزوجها غائب وله في يد رجل وديعة وهو مقر بالزوجية الوديعة فالقاضي يعطيها ( من ماله ) ويأخذ كفيلا ( ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحق ثابت قطعا ) أي فيما إذا كان الوارث الآخر معدوما ( أو ظاهرا ) فيما إذا كان موجودا والقاضي لم يكلف بإظهاره على وجه يوجب حق الحاضر بل هو مكلف بالعمل بما ظهر عنده ( فلا يؤخر ) إلى زمان التكفيل ( لحق موهوم ) أرأيت لو لم يجد كفيلا كان منع حقه هذا ظلما وصار ( كمن أثبت الشراء ممن في يده ) لا يؤخذ كفيل من المشتري بعدما أثبت شراءه بالحجة ( و ) لا يؤخذ الكفيل من رب الدين ( الذي أثبت دينه على العبد ) بالبينة ( حتى بيع ) العبد ( لأجل دينه ) وإن كان يتوهم حضور مشتر آخر قبله وغريم آخر للعبد ( ولأن المكفول له مجهول فهو كما لو كفل ) لأحد الغرماء ، بخلاف النفقة لأن حق الزوج ثابت والزوج معلوم ، فأما الآبق واللقطة ففي أخذ ( الكفيل روايتان عنه . والأصح أنه على الخلاف . وقيل إن دفع اللقطة بعلامة أو بإقرار العبد يكفل بالإجماع لأن الحق غير ثابت . ولهذا كان له أن يمنع )

مع العلامة وإقرار العبد بالإباق . لا يقال : يأخذ الكفيل لنفسه صيانة لقضائه عن النقض لأنه ليس بخصم ، ولا يقال يأخذ للميت لأن حقه في تسليم ماله إلى وارثه وقد أثبت وراثته فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل .

فإن قيل : القاضي يتلوم في هذه الصورة بالإجماع ذكره في الأسرار وكذا ذكر الصدر الشهيد ، والتلوم : إنما هو لتوهم وارث أو غريم آخر ، وبعد التلوم ما انقطعت الشبهة فينبغي أن يأخذ الكفيل لبقاء الشبهة ويدفع إلى الحاضر لقيام الحجة لأن الحجة راجحة على الشبهة فأظهرنا رجحانها في الدفع إليه فيجب أن يظهر قيام الشبهة في حق الكفيل عملا بالجهتين . أجيب بأن العمل يجب بالحجة بعد قيامها لا بالشبهة وليس التكفيل كالتلوم لأن التلوم لطلب علم زائد له ليتم علمه بالقدر الممكن ، فإن التلوم يقوم مقام قول الشهود لا وارث له غيره فإن هذا ليس بشهادة لأنها على النفي ، بل هو خبر يؤكد ظن انتفاء غيره ، أما الكفالة فطلب [ ص: 347 ] أمر زائد من المستحق فلا يجوز إلا بتوجه حق عليه ولا يتوجه بالموهوم .

قال المصنف ( وقوله ظلم ) أي قول أبي حنيفة ( يكشف عن مذهبه أن المجتهد يخطئ ويصيب لا كما ظنه البعض ) أنه قائل بأن كل مجتهد مصيب كقول المعتزلة جرهم إلى هذا القول بوجوب الأصلح فكان صيانة المجتهدين عن الخطإ وتقريرهم على الصواب واجبا . وسبب نسبة هذا القول إلى أبي حنيفة ما روي عنه أنه قال ليوسف بن خالد السمتي : كل مجتهد مصيب ، والحق عند الله واحد .

ولو حمل على ظاهره لكان متناقضا ، إذ قوله والحق عند الله واحد يفيد أنه ليس كل مجتهد أصاب الحق ، وإلا لكان الحق متعددا ، فلزم أن معنى قوله كل مجتهد مصيب : أي يصيب حكم الله تعالى بالاجتهاد ، فإنه تعالى أوجب الاجتهاد على المتأهل له فإذا اجتهد فقد أصاب بسبب قيامه بالواجب . وقال محمد : ولو تلاعنا ثلاثا ففرق القاضي بينهما نفذ وقال أخطأ السنة .




الخدمات العلمية