الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 323 ] قال ( وإذا كانت زائغة مستطيلة تنشعب منها زائعة مستطيلة وهي غير نافذة فليس لأهل الزائغة الأولى أن يفتحوا بابا في الزائغة القصوى ) لأن فتحه للمرور ولا حق لهم في المرور إذ هو لأهلها خصوصا حتى لا يكون لأهل الأولى فيما بيع فيها حق الشفعة ، [ ص: 324 ] بخلاف النافذة لأن المرور فيها حق العامة . قيل المنع من المرور لا من فتح الباب لأنه رفع بعض جداره .

والأصح أن المنع من الفتح لأن بعد الفتح لا يمكنه المنع من المرور في كل ساعة . ولأنه عساه يدعي الحق في القصوى بتركيب الباب [ ص: 325 ] ( وإن كانت مستديرة قد لزق طرفاها فلهم أن يفتحوا ) بابا لأن لكل واحد منهم حق المرور في كلها إذ هي ساحة مشتركة ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها .

التالي السابق


( قوله وإن كانت زائغة مستطيلة تنشعب منها زائغة أخرى مستطيلة وهي غير نافذة ) يعني المنشعبة ( فليس لأحد من أهل الزائغة الأولى ) إذا كان له جدار في الزائغة المنشعبة أن يفتح في جداره ذلك بابا في الزائغة المنشعبة ، وهذه صورتها : [ ص: 324 ] والذي يمكنه أن يفتح بابا في الزائغة القصوى هو صاحب الدار التي في ركن الزائغة الثانية ، وإنما قلنا ليس له ذلك لأن فتحه للمرور ولا حق لأهل الزائغة الأولى في المرور في الزائغة القصوى بل هو لأهلها على الخصوص ، ولذا لو بيعت دار في القصوى لم يكن لأهل الأولى شفعة فيها ، بخلاف أهل القصوى فإن لأحدهم أن يفتح بابا في الأولى لأن له حق المرور فيها ، و ( بخلاف النافذة فإن المرور فيها حق العامة ) ولا خلاف أن له أن يفتح . قال بعض المشايخ : لا يمنع من فتح الباب بل من المرور لأن فتح الباب رفع بعض جداره ، وله أن يرفعه كله فكذا له أن يرفع بعضه ، والأصح أن يمنع من الفتح لأنه منصوص عليه في الرواية بنص محمد في الجامع ، ولأن المنع بعد الفتح لا يمكن إذ لا يمكن مراقبته ليلا ونهارا في الخروج فيخرج ، ولأنه عساه يدعي بعد تركيب الباب وطول الزمان حقا في المرور ، ويستدل عليه بتركيب الباب فيكون بتركيب الباب ممهد لنفسه دعوى حق المرور ويكون القول [ ص: 325 ] قوله للظاهر الذي معه وهو فتح الباب ( ولو كانت ) المنشعبة ( مستديرة فلهم أن يفتحوا لأن لكل منهم حق المرور في كلها إذ هي ساحة مشتركة ) غاية الأمر أن فيها اعوجاجا ( ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها ) وهذه صورتها :

وفي الحيطان زقاق غير نافذ أراد إنسان : يعني من أهله أن يتخذ طينا إن ترك من الطريق قدر الممر للناس ويرفعه سريعا ويفعل في الأحايين مرة لا يمنع منه ، وكذا لو أراد أن يبني آريا أو دكانا وهو الذي نسميه في عرفنا مصطبة ، ولو استأذن رجلا في وضع جذوع على حائطه أو حفر سرداب تحت داره ففعل ثم باع الآذن داره للمشتري أن يأخذه برفعها إلا إذا شرط بقاءها عند البيع ، وكذا لو كان نصب أعمدة ملاصقة لجدار الرجل مقابلة لبابه ونصب عليها وعلى وجه داره سقيفة للمشتري أن يطالبه بإزالتها إلا إذا شرطها ، ولو أن لرجل حائطا ووجهه في دار رجل فأراد أن يطين حائطه ولا سبيل إليه إلا بدخول دار الرجل أو انهدم الحائط فوقع نقضه في داره فأراد أن يدخل ليبل الطين وغيره فمنعه صاحب الدار أو له مجرى ماء في داره فأراد حفره وإصلاحه ولا يمكن إلا بدخول دار الرجل وهو يمنعه يقال له إما أن تتركه يدخل ويصلح ويفعل بماله أو تفعل بمالك ، كذا روي عن محمد وبه أخذ الفقيه أبو الليث .

وفي وقف النوازل : دار مشتركة بين قوم لبعضهم أن يربطوا الدابة فيها وأن يضعوا الخشب على وجه لا يضر بصاحبه ، وأن يتوضئوا بحيث لا تضيق عليهم الطريق لمرورهم ولو عطب بها أحد لا يضمن ، ولو حفر الأرض يؤمر أن يسويها فإن نقص الحفر يضمن النقصان ، وكذا لو كان الطريق بين قوم وهو غير نافذ ، غير أن في الطريق لا يضمن نقصان الحفر .

وفي أول قسمة الأصل قبيل باب قسمة الدار : رجل أصاب ساحة في القسمة فأراد أن يبنيها ويرفع بناءها وأراد الآخر منعه وقال تسد علي الريح والشمس له أن يرفع بناءه وله أن يتخذ فيها حماما أو تنورا ، وإن كف عما يؤذي جاره فهو حسن ولا يجبر على ذلك . ولو فتح صاحب البناء في علو بنائه بابا أو كوة لم يكن لصاحب الساحة منعه ، ولصاحب الساحة أن يبني في ملكه ما يستر مهبه .

ولو اتخذ بئرا في ملكه أو كرباسا أو بالوعة فنز منها حائط جاره وطلب جاره منه تحويله لم يجبر عليه ، فإن سقط الحائط من ذلك لا يضمن . هذا كله ظاهر المذهب وجواب الرواية . وحكي عن أبي حنيفة أن رجلا شكا إليه من بئر حفرها جاره في داره فقال [ ص: 326 ] احفر في دارك بقرب تلك البئر بالوعة ففعل ، فسجست البئر فكبسها صاحبها ولم يفته بمنع الحافر بل هداه إلى هذه الحيلة ، وبذلك كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني . وفي مضاربة النوازل : لو اتخذ داره حظيرة للغنم والجيران يتأذون من نتن السرقين ولا يأمنون على الرعاة ليس لهم في الحكم منعه ، وبه قال الشافعي وأحمد . ولو حفر في داره بئرا فنز منها حائط جاره ليس له منعه . قال في فصول العمادي نقلا عن الذخيرة بعد أن نقل عن نصر بن يحيى أن للقاضي منع الجار من ذلك ، وذكر غيره تمسكهم بقوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } والوجه لظاهر الرواية لأن صاحب البناء كان ينتفع بهواء ملك صاحب الساحة قبل البناء فصاحب الساحة إذا سد الهواء بالبناء فإنما منعه عن الانتفاع بملكه ولم يتلف عليه ملكا ولا منفعة ، فصار كما لو كان لرجل شجرة يستظل بها جاره فأراد قطعها لا يمنع من ذلك وإن تضرر به الجار يمنعه من ذلك الانتفاع ، وتصير هذه المسألة رواية في مسألة لا رواية لها في الكتب ، وصورتها بالفارسية في الذخيرة وغيرها . وحاصلها بالعربية بيتان لرجلين لكل منهما سقف واحد فأراد أحدهما أن يرفع البناء ويجعله ذا سقفين . قال في الفتاوى الصغرى : إن كانا في القديم بسقف واحد للآخر أن يمنعه ، وإن كان بسقفين فليس له منعه ، قال : وحد القديم أن لا تحفظ أقرانه وراء هذا الوقت كيف كان .

قال في الخلاصة : فلو أقام أحدهما البينة على أنه قديم والآخر على أنه محدث فبينة القديم أولى . قال : ولا تقبل شهادة أهل السكة في هذا . قال في الذخيرة : ينبغي أن لا يكون له المنع على قياس هذه المسألة لأن صاحب البيت الآخر يجعل بيته ذا سقفين ويمنعه من الانتفاع بهواء ملك نفسه انتهى . وعلى تقدير الفرق فالفرق أن في هذه المسألة وهي مسألة البيتين يريد أن يمنعه من الضوء والضوء من الحوائج الأصلية ، وفي مسألة الأصل يمنعه عن الشمس والريح وذا من الحوائج الزائدة انتهى .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } فلا شك أنه عام مخصوص للقطع بعدم امتناع كثير من الضرر كالتعازير والحدود ونحو مواظبة طبخ ينتشر به دخان قد ينحبس في خصوص أماكن فيتضرر به جيران لا يطبخون لفقرهم وحاجتهم خصوصا إذا كان فيهم مريض يتضرر به ، وكما أريناك من التضرر بقطع الشجرة المملوكة للقاطع فلا بد أن يحمل على خصوص من الضرر وهو ما يؤدي إلى هدم بيت الجار ونحوه من الضرر البين الفاحش . وفي الذخيرة : حكي عن بعض مشايخنا رحمهم الله أن الدار إذا كانت مجاورة لدور فأراد صاحب الدار أن يبني فيها تنورا للخبز الدائم أو رحى للطحن أو مدقة للقصارين يمنع منه لأنه يتضرر به جيرانه ضررا فاحشا . قيل وأجمعوا على منع الدق الذي يهدم الحيطان ويوهنها ودوران الرحى من ذلك .

والحاصل أن القياس في جنس هذه المسائل أن يفعل صاحب الملك ما بدا له مطلقا لأنه يتصرف في خالص ملكه وإن كان يلحق الضرر بغيره ، لكن يترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررا فاحشا كما تقدم وهو المراد بالبين فيما ذكر الصدر الشهيد وهو ما يكون سببا للهدم وما يوهن البناء سبب له أو يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية على ما ذكر في الفرق المتقدم واختاروا الفتوى عليه .

وأما التوسع إلى منع كل ضرر ما فيسد باب الانتفاع بملك الإنسان كما ذكرنا قريبا ، ومنه ما ذكر أبو الليث في فتاواه : حجرة سطحها وسطح جاره متساويان فأخذ جاره حتى يتخذ حائطا بينه وبين جاره ليس له ذلك . فلو أراد أن يمنعه من الصعود حتى يتخذ سترة ، إن كان إذا صعد يقع بصره في دار جاره له المنع ، وإن كان لا يقع [ ص: 327 ] لكن يقع إذا كانوا على السطح ليس له المنع . قال في فصول العمادي : وعلى قياس المسألة المتقدمة وهي أن لا يمنع صاحب الساحة من أن يفتح صاحب العلو كوة ينبغي أن يقال في هذه ليس للجار حق المنع من الصعود وإن كان بصره يقع في دار جاره ; ألا ترى أن محمدا رحمه الله لم يجعل لصاحب الساحة حق منع صاحب البناء عن فتح الكوة في علوه مع أن بصره يقع في الساحة ، والمراد من قوله يأخذ جاره ببناء السترة أن يشاركه في بنائها لا أن يستقل هو بذلك ويدل عليه بعض العبارات في كتاب الحيطان : دار بين رجلين قسماها وقال أحدهما نبني حاجزا بيننا ليس على الآخر إجابته ، وإن كان أحدهما يؤذي الآخر بالاطلاع عليه كان للقاضي أن يأمرهما ببنائه يتخارجان نفقته بقدر حصة كل منهما يفعله القاضي للمصلحة . ونظيرها في فتاوى أبي الليث : رجل في داره شجرة فرصاد ، فإذا ارتقاها يطلع على عورات الجار يمنعه القاضي منه إذا رآه . قال في الذخيرة : وعلى قياس مسألة فتح الكوة ليس للجار ولاية المرافعة ولا للقاضي المنع انتهى .

ولقد أحسن الصدر الشهيد في واقعاته حيث قال : المختار أن المرتقي يخبرهم وقت الارتقاء مرة أو مرتين حتى يستروا أنفسهم لأن هذا جمع بين الحقين .




الخدمات العلمية