الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو قال المسلم إليه لم يكن له أجل وقال رب السلم بل كان له أجل فالقول قول رب السلم ) لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له وهو الأجل ، والفساد لعدم الأجل غير متيقن لمكان الاجتهاد [ ص: 110 ] فلا يعتبر النفع في رد رأس المال ، بخلاف عدم الوصف ، وفي عكسه القول لرب السلم عندهما لأنه ينكر حقا له عليه فيكون القول قوله وإن أنكر الصحة كرب المال إذا قال للمضارب شرطت لك نصف الربح إلا عشرة وقال المضارب لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال لأنه ينكر استحقاق الربح وإن أنكر الصحة .

وعند أبي حنيفة رحمه الله القول للمسلم إليه لأنه يدعي الصحة وقد اتفقا على عقد واحد فكانا متفقين على الصحة ظاهرا ، بخلاف مسألة المضاربة لأنه ليس بلازم فلا يعتبر الاختلاف فيه فيبقى مجرد دعوى استحقاق الربح ، أما السلم فلازم فصار الأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول لصاحبه بالاتفاق ، وإن خرج خصومة [ ص: 111 ] ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده ، وعندهما للمنكر وإن أنكر الصحة .

التالي السابق


( ولو قال ) المسلم إليه لم يكن فيه أجل وقال رب السلم فيه أجل فالقول قول رب السلم أي بالاتفاق ، وكذا في مقداره وهو قول الشافعي لأن كلام المسلم إليه هنا تعنت لأنه ينكر ما ينفعه وما هو حقه ( وهو الأجل ) لأن الأجل لترفيه المسلم إليه وهذا استحسان . وأورد عليه ينبغي أن يكون القول لمن يدعي الفساد لأن المسلم فيه لما كان في العادة يربو على رأس المال كان إنكار المسلم إليه الصحة خصومة فلا يكون متعنتا ، وهذا الإيراد هو وجه القياس .

فأجاب عنه المصنف بقوله ( والفساد لعدم الأجل ليس متيقنا ) حتى [ ص: 110 ] يكون إنكاره إنكار الصحة دافعا لزيادة المسلم فيه لأن السلم الحال جائز عند بعض المجتهدين ( فلا يعتبر النفع في رد رأس المال ) لأنه ليس بلازم قطعا ( بخلاف عدم الوصف ) كالرداءة ونحوها على ما تقدم فإنه ملزوم قطعا للفساد ( وفي عكسه ) وهو أن يدعي المسلم إليه الأجل ورب السلم ينكره ( القول لرب السلم عندهما لأنه ينكر حقا عليه ) وهو زيادة الربح الكائن في قيمة المسلم فيه على ما دخل في يده من رأس المال فصار ( كرب المال إذا قال للمضارب شرطت لك نصف الربح إلا عشرة وقال المضارب بل شرطت لي نصف الربح فإن القول لرب المال لأنه ينكر استحقاق ) زيادة ( الربح ) وإن تضمن ذلك إنكار الصحة .

ووقع في بعض النسخ نصف الربح وزيادة عشرة وهي غلط ، لأن على هذا التقدير القول للمضارب ، ولأن إنكاره الزيادة على ذلك التقدير لا على هذا ( وعند أبي حنيفة القول للمسلم إليه ) وهو قول الشافعي ( لأنه يدعي الصحة وقد اتفقا على عقد واحد فكانا متفقين على الصحة ظاهرا ) إذ الظاهر من حال المسلم الامتناع عن العقد الفاسد ، ولأنه هو المفيد لتمام الفرض المقصود من مباشرته وهو ثبوت الملك على وجه لا يجب نقضه ورفعه شرعا ، ولأن شرط الشيء تبع له ، فالاتفاق على صدور هذا العقد اتفاق على صدور شرائطه .

فإنكار الأجل إنكار بعد الإقرار ظاهرا فلا يقبل ، وصار كما لو اختلف الزوجان في التزويج بشهود أو بلا شهود فالقول لمن يدعيه بشهود ( بخلاف المضاربة ) لأنه أي عقد المضاربة ( ليس بلازم ) ولهذا يتمكن رب المال من عزله قبل شرائه برأس المال ، وكذا المضارب له فسخه ، وإذا كان غير لازم ارتفع باختلافهما ، وإذا ارتفع بقي دعوى المضارب في استحقاق الربح ورب المال ينكر فالقول له ( أما السلم ف ) عقد ( لازم ) فلا يرتفع بالاختلاف فكان مدعي الفساد متناقضا ظاهرا كما ذكرنا ، ولأن عقد المضاربة إذا صح كان شركة ، وإذا فسد صار إجارة فلم يتفقا على عقد واحد ، فإن مدعي الفساد يدعي [ ص: 111 ] الإجارة ، ومدعي الصحة يدعي الشركة فكان اختلافهما في نوع العقد ، بخلاف السلم الحال وهو ما يدعيه منكر الأجل سلم فاسد لا عقد آخر فلهذا يحنث به في يمينه لا يسلم في شيء فقد اتفقا على عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فالقول لمدعي الصحة .

واستشكل بما لو قال في المضاربة رب المال شرطت نصف الربح وزيادة عشرة فإن القول للمضارب ، ولم يقل اختلفا في نوع العقد . أجيب بأن المضارب ادعى الشركة والصحة ورب المال أقر له بذلك بقوله شرطت لك نصف الربح ثم قوله وزيادة عشرة عطفا عليه يدعي الفساد لأن أول الكلام لا يتوقف على آخره فيه ، بخلاف قوله إلا عشرة بالاستثناء فإنه يتوقف إذ صدر الكلام مع الاستثناء كلام واحد ، قيل فيه نظر لأن في الأصول فيما إذا زوجه الفضولي أختين في عقدين فقال أجزت نكاح هذه وهذه يفسدان ، لأنه توقف أوله على آخره بوجود المغير في آخره وإن كان بحرف العطف ، وأورد أيضا بما إذا قال تزوجتك وأنا صغير وقالت بل بعد بلوغك فالقول للزوج مع أنه يدعي فساد العقد : أجيب بأنه ما أقر بأصل العقد بل أنكره حيث أسنده إلى حال عدم الأهلية . واعلم أن إنكار الأجل على ثلاثة أوجه : أحدها في أصل الأجل وهي مسألة الكتاب . والثاني في مقدار الأجل والقول فيه قول من يدعي الأقل مع يمينه ، فإن قامت بينة للمدعي الأكثر قضى بها ، وإن قامت لكل منهما فالبينة بينة مثبت الزيادة .

والثالث في مضي الأجل إذا قال رب السلم مضى الأجل المسمى وقال المسلم إليه لا فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لأنه ينكر توجه المطالبة عليه ، ومن أقام بينة قضى له ، فإن أقاماها فالبينة بينة المطلوب لأنها تثبت زيادة الأجل ، هذا والاختلاف في مقدار الأجل لا يوجب التحالف عندنا خلافا لزفر لأنه ليس في المعقود عليه ولا في بدله بخلاف الاختلاف في الصفة : يعني أنه ما هو فإنهما يتحالفان [ ص: 112 ] لأن الوصف جار مجرى الأصل . وفي الخلاصة : إذا شرط في السلم الثوب الجيد فجاء بثوب وادعى أنه جيد وأنكر الطالب فالقاضي يرى اثنين من أهل تلك الصنعة وهذا أحوط والواحد يكفي ، فإن قالا جيد أجبر على القبول ، وإذا اختلفا في السلم يتحالفان استحسانا ويبدأ بيمين المطلوب عند أبي يوسف ، ثم رجع وقال بيمين الطالب وهو قول محمد ، وإن قامت لأحدهما بينة قضى بها ، وإن قامت لهما بينة قضى ببينة رب السلم بسلم واحد عند أبي يوسف .

والمسألة على ثلاثة أوجه : لأن رأس المال إما عين أو دين ، وكل وجه على ثلاثة أوجه . اتفقا على رأس المال واختلفا في المسلم فيه أو على القلب أو اختلف فيهما ، فإن كان رأس المال عينا واختلفا في المسلم فيه لا غير فقال الطالب هذا الثوب في كر حنطة وقال الآخر في نصف كر أو في شعير أو في الحنطة الرديئة وأقاما قضى ببينة رب السلم بالإجماع ، وإن اختلفا في رأس المال فقال أحدهما هذا الثوب وقال الآخر هذا العبد واتفقا على المسلم فيه أنه الحنطة أو قال أحدهما هذا الثوب في كر حنطة وقال الآخر في كر شعير وأقاما البينة قضى بالسلمين ، فمحمد مر على أصله . وأبو يوسف يقول : كل يدعي عقدا غير ما يدعيه الآخر . وإن كان رأس المال دراهم أو دنانير ، وإن اتفقا على رأس المال واختلفا في المسلم فيه وأقاما البينة فالبينة لرب السلم ويقضي بسلم واحد عند أبي يوسف خلافا لمحمد ، وإن كان الاختلاف على القلب فعلى هذا الخلاف .

ولو اختلفا فيهما فقال أحدهما عشرة دراهم في كري حنطة وقال الآخر خمسة عشر في كر وأقاما ، فعند أبي يوسف تثبت الزيادة فيجب خمسة عشر في كرين ولا يقضي بسلمين ، وعند محمد يقضي بسلمين عقد بخمسة عشر في كر وعقد بعشرة في كرين . ولو ادعى أحدهما أن رأس المال دراهم والآخر دنانير لم يذكر هذا وينبغي أن يقضي بسلمين كما في الثوبين . وفيها : أسلم في ثوب وشرط الوسط فجاء بجيد وقال خذ هذا وزدني دراهم فعلى وجوه : إما إن كان كيليا أو وزنيا أو ذرعيا ، ففي الكيلي فإن أسلم في عشرة أقفزة فجاء بأحد عشر وقال زدني درهما جاز لأنه باع قفيزا بثمن معلوم ، ولو جاء بتسعة وقال خذ وأرد عليك درهما فقبل جاز أيضا فإنه إقالة في البعض فيجوز كما في الكل ولو جاء بحنطة أجود أو أردأ فأعطى درهما لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف يجوز ، وقدمنا أنه في الأردإ والأجود يجوز بالإجماع إذا لم يكن معه شيء آخر .

وفي الثوب إن جاء بأزيد بذراع وقال زدني درهما جاز وهو بيع ذراع بدرهم يمكن تسليمه ، بخلاف بيعه مفردا ، وكذا إذا أتى بالزيادة من حيث الوصف فإنه يجوز عندهم ، وإن جاء بأنقص فرد معه درهما لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد لأنه إقالة فيما لا يعلم حصته لأن الذراع وصف وحصته مجهولة ، هذا إذا لم يبين لكل ذراع حصة ، فإن بين جاز بلا خلاف ، وكذا لو جاء بأنقص وصفا لا يجوز ولو بأزيد وصفا جاز الكل في الأصل




الخدمات العلمية