الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل الثاني .

العلم بأن الله تعالى قديم لم يزل أزلي ليس لوجوده أول ، بل هو أول كل شيء ، وقبل كل ميت وحي .

التالي السابق


(الأصل الثاني)

لما فرغ من ذكر الصفة النفسية التي هي الوجود من جملة الصفات العشرين، وهو القسم الأول، شرع في ذكر الصفات السلبية، فأشار إلى أولها، وهو القدم، بقوله: (العلم بأن الباري تعالى قديم لم يزل) وأما بقية صفات السلب التي ذكرها المتأخرون في كتبهم، وهي: البقاء، ومخالفته للحوادث، وقيامه بنفسه، والوحدانية؛ فإنها تؤخذ من سياق المصنف على طريقة المتقدمين مفرقة على طريق التلويح والإشارة من غير ترتيب، ثم القدم هي صفة سلبية على الأصح، أي: ليست بمعنى موجود في نفسه، كالعلم مثلا، وإنما هي عبارة عن سلب العدم السابق على الوجود، وإن شئت قلت: وهو عبارة عن سلب الأولية للوجود، وإن شئت قلت: هو عبارة عن سلب الافتتاح للوجود، والثلاثة بمعنى واحد، هذا معنى القدم في حقه تعالى، وفي حق صفاته، ويطلق القدم على معنى آخر، وهو توالي الأزمنة على الشيء، وإن كان محدثا، ومنه قوله تعالى: حتى عاد كالعرجون القديم ، وهذا المعنى محال في حقه سبحانه وتعالى; لأن وجوده -جل وعز- لا يتقيد بزمان، ولا مكان؛ لحدوث كل منهما، فلا يتقيد بواحد منهما إلا ما هو حادث، وهل يجوز أن يتلفظ بالقديم في حقه تعالى؟ فمن راعى معناه جوزه، ومن راعى كونه لم يرو نصا منع; لأن الأسماء توقيفية، ومنهم من أورد فيه نصا من السنة، فعلى هذا يصح، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، فراجعه ودل عليه من القرآن قوله تعالى: وما نحن بمسبوقين .

(أزلي) نسبة إلى الأزل، وهو القديم، كما في الصحاح والتهذيب؛ فهو حينئذ بمعنى القديم، وقيل: منسوب إلى "لم يزل"، قاله الزمخشري، وتقدم البحث فيه في الفصل الأول (ليس لوجوده أول، بل هو الأول قبل كل شيء، وقبل كل ميت وحي) أي: لم يسبق وجوده عدم، يعني أن القدم في حقه تعالى بمعنى الأزلية التي هي كون وجوده غير مستفتح، قال المصنف في "الاقتصاد": ليس تحت لفظ القديم، يعني في حق الله تعالى، سوى إثبات موجود ونفي عدم سابق، فلا تظنن أن القدم معنى زائد على ذات القديم، فيلزمك أن تقول ذلك المعنى أيضا قديم بقدم زائد عليه، وتسلسل إلى غير نهاية. اهـ .



وقال أبو منصور والتميمي: اختلف المتكلمون فيما يجوز إطلاق وصف القديم عليه تعالى، وفي معناه على أربعة مذاهب، وكان شيخنا الأشعري يقول: إن معناه المتقدم في وجود ما يكون بعده، والتقدم نوعان: تقدم بلا ابتداء، كتقدمه تعالى وصفاته القائمة بذاته على الحوادث كلها، وتقدم بغاية، كتقدم بعض الحوادث على بعض، وأجاز إطلاق وصف القديم عليه تعالى وعلى صفاته الأزلية، وقال: إن القديم قديم لنفسه، لا لمعنى يقوم به، فلا ننكر وصف صفاته الأزلية بهذا الوصف، كما لم ننكر وصفها بالوجود، إذ كان موجودا لنفسه، وقال عبد الله بن سعيد وأبو العباس القلانسي: إن القديم قديم بمعنى يقوم به، فهؤلاء يقولون: إنه تعالى قديم لمعنى قائم به، ويقولون: إن صفاته قائمة به، موجودة أزلية، ولا يقال إنها قديمة ولا محدثة .

وزعم معمر وأتباعه من المعتزلة الحق أن الله لا يوصف بأنه قديم، ولا بأنه كان عالما في الأزل بنفسه; لأن من شرط المعلوم عنده أن يكون غير العالم، ونفسه ليس لغيره، وزعم الباقون من القدرية أن القديم هو الإله، ونفوا صفاته الأزلية، وقالوا: لو كانت الصفات أزلية لشاركته في القدم، ولوجب أن تكون آلهة; لأن الاشتراك في القدم يوجب التماثل، وقد بينا في أول الكتاب أن الاشتراك في القدم لا يوجب تماثلا، كما أن الاشتراك في صفة الحدوث لا يوجب تماثلا. اهـ .

وقال السبكي: اعلم أن الأشاعرة اختلفوا في صفة القدم، فنقل عن الشيخ أنها صفات المعاني، وهو قول عبد الله بن سعيد، وقيل: من الصفات النفسية، وإليه رجع الشيخ، والحق أنها من الصفات السلبية، فلا يكون من الصفات النفسية ولا المعنوية؛ إذ السلب داخل في مفهومه، إذ القدم هو عدم سبقية العدم على الوجود، وقد تقدم ذلك. اهـ .




الخدمات العلمية