الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل التاسع :

العلم بأنه تعالى مع كونه منزها عن الصورة والمقدار مقدسا عن الجهات والأقطار مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة دار القرار لقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .

التالي السابق


(الأصل التاسع: العلم بأن الله تعالى مع كونه منزها عن الصورة والمقدار) المفهوم من قوله: لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء (مقدسا عن الجهات والأقطار) وعن الأمكنة والأزمنة والتحديد وغير ذلك (مرئي للمؤمنين بالأعين والأبصار في الدار الآخرة بعد دخولهم دار القرار) نظم المصنف هذا الأصل في سلك أصول الركن المعقود لمعرفة الزاد; نظرا إلى أن نفي الجهة يوهم أنه مقتض للانتفاء، فاقتضى المقام دفع هذا التوهم ببيان جواز الرؤية عقلا، ووقوعها سمعا، فهو كالتتمة للكلام في نفي الجهة والمكان .

قال ابن أبي شريف: الكلام في الرؤية في ثلاثة مقامات: الأول: في تحقيق معناها تحريرا لمحل النزاع بيننا وبين المعتزلة، فنقول: إذا نظرنا إلى الشمس مثلا فرأيناها ثم أغمضنا العين، فإنا نعلم الشمس عند التغميض علما جليا، لكن في الحالة الأولى أمر زائد، وكذا إذا علمنا شيئا علما تاما جليا ثم رأيناه فإنا ندرك بالبديهة تفرقة بين الحالتين، وهذا الإدراك المشتمل على الزيادة فنسميه الرؤية .

قلت: يشير إلى أن المعنى من الرؤية ما نجده من التفرقة من إدراك الشمس حالة تقليب الحدقة وصرف البصر إليه، ومن إدراكنا لها حالة انصراف البصر، أو تغميضه عنها، فالإدراك الأول هو المسمى بالرؤية، والثاني هو المسمى بالعين، ثم قال: ولا تتعلق في الدنيا إلا بمقابلة لما هو في جهة ومكان، فهل يصح أن تقع بدون المقابلة والجهة والمكان ليصبح تعلقه بذات الله تعالى مع التنزيه عن الجهة والمكان .

المقام الثاني: في جوازها عقلا .

والثالث: في وقوعها سمعا .

أما المقام الثاني فقال الآمدي: أجمع الأئمة من أصحابنا على أن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا، واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا، فأثبته قوم، ونفاه [ ص: 113 ] آخرون، وهل يجوز أن يرى في المنام؟ فقيل: لا. وقيل: نعم. والحق أنه لا مانع من هذه الرؤية، وإن لم تكن رؤية حقيقية، ولا خلاف عندنا أنه تعالى يرى ذاته المقدسة، والمعتزلة حكموا بامتناع رؤيته عقلا لدى الحواس، واختلفوا في رؤيته لذاته .

وأما المقام الثالث، فقد أطبق أهل السنة على وقوع الرؤية في الآخرة، واختلفوا في وقوعها في الدنيا، ومقصود المصنف في هذا المقام الاستدلال على وقوعها في الآخرة، فقدم الاستدلال عليه بالنقل، ثم بالعقل، ثم استدل بالنقل أيضا على الجواز على أنه يلزم من ثبوت الوقوع في الآخرة بدليله ثبوت الجواز، ثم استدل بالعقل على الجواز، فقال: (لقوله تعالى: وجوه يومئذ ) أي: يوم القيامة ( ناضرة ) أي: ذات نضرة، وهي تهلل الوجه وبهاؤه ( إلى ربها ناظرة ) أي: مستغرقة في مطالعة جماله، بحيث تغفل عما سواه، فتقديم المعمول على هذا للحصر ادعاء، ويصح كونه لمجرد الاهتمام ورعاية الفاصلة دون الحصر، ويكون المعنى: مكرمة بالنظر إلى ربها، قال السبكي: وتقرير هذا الدليل عند الأئمة أن النظر الموصل بـ"إلى" إما بمعنى الرؤية، أو هو ملزوم بالرؤية بشهادة النقل عن أئمة اللغة، فهو إما حقيقة أو مجاز عن الرؤية؛ لكونه عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي طلبا لرؤيته، وقد تعذرت هنا الحقيقة لامتناع المقابلة والجهة، فتعينت الرؤية لكونها أقرب المجازات إلى الحقيقة، ثم اشتهر هذا المجاز بحيث التحق بالاستعمال الحقيقي كما يشهد به العرف. اهـ .

وقال النسفي: النظر المضاف إلى الوجه المقيد بكلمة "إلى" لا يكون إلى نظر العين، وبهذا بطل قول من قال من المعتزلة: إن معنى الآية نعمة ربها منتظرة؛ لأن "إلى" واحد الآلاء، كذا في تهذيب الأزهري، إذ النظر إذا أريد به الانتظار فإنه لا يعلق بالوجه، ولا يتعدى بـ"إلى"، كما في قوله تعالى: فناظرة بم يرجع المرسلون ، أي: منتظرة، ولأن حمل النظر على الانتظار المفضي للنعم في دار القرار سمج; لما قيل: الانتظار موت أحمر. اهـ .

من الدلائل على جواز الرؤية من الكتاب قوله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، خص الكفار بالحجاب؛ تحقيرا لهم وإهانة، فلو لم تكن المؤمنون بخلافهم لعم التحقير وبطل التخصيص، وقال النسفي: تخصيص الحجاب للكفار دليل على عدمه للأبرار. اهـ .

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول في هذه الآية: علمنا بذلك أن قوما غير محجوبين ينظرون إليه لا يضامون في رؤيته.ومما دل على الرؤية من الكتاب أيضا قوله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، فقد ورد من طرق صحيحة مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن الزيادة فقال: "النظر إلى الله تعالى".

وأما في السنة فما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟"، قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فإنكم ترونه كذلك"، في بعض الروايات: "هل تضامون"، وفي بعضها: "فإنكم ترون ربكم كذلك"، والمقصود به تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي .

وأخرج القشيري في رسالته حديثا طويلا من رواية جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وفيه: "فيكشف لهم الحجاب فينظرون الله تعالى فيتمتعون بنور الرحمن سبحانه حتى لا يبصر بعضهم بعضا"، وأحاديث الرؤية متواترة معنى، فقد وردت بطرق كثيرة عن جمع كثير من الصحابة .




الخدمات العلمية