الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الرابع .

من قواعد العقائد .

في الإيمان والإسلام وما بينهما من الاتصال وما يتطرق إليه من الزيادة والنقصان ووجه استثناء السلف فيه وفيه ثلاث مسائل .

مسألة .

اختلفوا في أن الإسلام هو الإيمان أو غيره وإن كان غيره فهل هو منفصل عنه يوجد دونه ، أو مرتبط به يلازمه فقيل : إنهما شيء واحد وقيل : إنهما شيئان لا يتواصلان وقيل : إنهما شيئان ولكن يرتبط أحدهما بالآخر .

وقد أورد أبو طالب المكي في هذا كلاما شديد الاضطراب كثير التطويل فلنهجم الآن على التصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له فنقول : في هذا ثلاثة مباحث بحث عن موجب اللفظين في اللغة وبحث عن المراد بهما في إطلاق الشرع وبحث عن حكمهما في الدنيا والآخرة ، والبحث الأول لغوي والثاني تفسيري والثالث فقهي شرعي .

; البحث الأول في موجب اللغة .

والحق فيه أن الإيمان عبارة عن التصديق قال الله تعالى وما أنت بمؤمن لنا ، أي : بمصدق والإسلام عبارة عن التسليم والاستسلام بالإذعان والانقياد وترك التمرد والإباء والعناد وللتصديق محل خاص وهو القلب واللسان ترجمان .

وأما التسليم فإنه عام في القلب واللسان والجوارح ; فإن كل تصديق بالقلب فهو تسليم وترك الإباء والجحود وكذلك الاعتراف باللسان وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح .

فموجب اللغة أن الإسلام أعم والإيمان أخص فكان الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام فإذن ، كل تصديق تسليم ، وليس كل تسليم تصديقا .

التالي السابق


(الفصل الرابع) (من) كتاب (قواعد العقائد) ، وهو آخر فصول الكتاب، وبه ختم (في) بيان [ ص: 234 ] (الإيمان والإسلام و) بيان (ما بينهما من الاتصال والانفصال) هل هما شيء واحد أو يفترقان (و) بيان (ما يتطرق إليه) أي: إلى الإيمان (من) وصفي (الزيادة والنقصان) ، وبيان اختلاف العلماء فيه (و) بيان (وجه استئناف السلف) الصالح (فيه) أي: في الإيمان، وهو قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله; وما فيه من الاختلاف (فى جوازه وعدم جوازه) كما سيأتي. (وفيه ثلاث مسائل) الأولى (مسألة اختلفوا في أن الإسلام) هل (هو الإيمان) بعينه (أو) هو (غيره) ، وعلى الأول فظاهر (و) على الثاني أي: (إن كان غيره فهو) لا يخلو إما أنه (منفصل يوجد) ويتحقق (دونه، أو هو مرتبط به) ارتباطا بحيث (يلازمه) ولا ينفك عنه (فقيل: إنهما شيء واحد) في المعنى والحكم، يطلق أحدهما على الآخر (وقيل: إنهما شيئان) مفترقان (لا يتواصلان) بل مستقلان بذاتهما (وقيل: إنهما شيئان ولكن) مع افتراقهما (يرتبط أحدهما بالآخر، وقد أورد) الإمام (أبو طالب) محمد بن علي بن عطية الحارثي البصري (المكي) في كتابه "قوت القلوب ولذة المحب والمحبوب" -وقد تقدمت ترجمته في أول الكتاب- (في هذا) الباب (كلاما) إلا أنه (شديد الاضطراب) والتدافع (كثير التطويل) بإيراد العبارات، وما كان كذلك فهو قليل الجدوى .

(فلنهجم) من الهجوم، وهو الدخول مرة واحدة بسرعة (على التصريح بالحق) الصريح (من غير تعريج) أي: ميل (على نقل ما لا تحصيل له) أي: لا زبدة له (فنقول: في هذا) الباب (ثلاث مباحث) : الأول: (بحث عن موجب اللفظين في اللغة) بفتح الجيم من الموجب، (و) الثاني (بحث عن المراد بهما) في إطلاق الشرع، (و) الثالث: (بحث عن حكميهما في الدنيا والآخرة، والبحث الأول) من ذلك (لغوي) ; لأنه يبحث فيه عن جوهر لفظيهما، (و) البحث (الثاني تفسيري) ; لأنه يبحث فيه عن إطلاقات القرآن، (و) البحث (الثالث فقهي شرعي; لأنه يبحث فيه عما يترتب على المتصف بهما ثوابا وعقابا) .

(البحث الأول في موجب اللغة) بفتح الجيم، من أوجب عليه كذا، فهو موجب، والمعنى: ما يوجبه اللغة إيجابا، والموجب بالكسر هو الذي يجب صدور الفعل عنه، بأن كان علة تامة له من غير قصد وإرادة، وهذا هو الموجب بالذات، ومثلوه بوجوب صدور الإحراق من النار، ويراد بهذا المفهوم، وهو ما دل عليه اللفظ، لا في محل النطق (والحق فيه أن الإيمان عبارة) والعبارة ما استفيد من لفظ أو غيره مع بقاء رسم ذلك الغير (عن التصديق) هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر أو المخبر عنه، والصدق: مطابقة القول الضمير والمعبر عنه معنى، ثم استعماله في التصديق إما مجاز لغوي أو حقيقة لغوية، أشار إليه السيد في حاشية الكشاف (قال الله تعالى) في قصة إخوة سيدنا يوسف عليه السلام: ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ، أي: بمصدق) فهذا هو مفهوم الإيمان لغة، وهمزة "آمن"، للتعدية أو الصيرورة، فعلى الأول كأن المصدق جعل الغير آمنا من تكذيبه، وعلى الثاني كأن المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذوبا، وباعتبار تضمنه معنى الإقرار والاعتراف يتعدى بالباء، كما قال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه ، وباعتبار تضمنه معنى الإيمان والقبول يعدى باللام، ومنه: فآمن له لوط ، والحكم الواحد يقع تعليقه بمتعلقات متعددة باعتبارات مختلفة، مثل: آمنت بالله، أي: بأنه واحد، متصف بكل كمال، منزه عن كل وصف لا كمال فيه، وآمنت بالرسول، أي: بأنه مبعوث من الله، صادق فيما أخبر به، وآمنت بالملائكة، أي: بأنهم عباد الله المكرمون، وآمنت بكتب الله، أي: بأنها منزلة من عنده .

(والإسلام عبارة عن التسليم) هو ترك الاعتراض فيما لا يلائم (والاستسلام) هو الانقياد الظاهر فقط، والدخول في السلم (بالإذعان والانقياد) أي: الانجذاب بالباطن (وترك التمرد) والعتو (والإباء) أي: الكراهة والامتناع (والعناد) وهو المبالغة في الإعراض ومخالفة الحق .

(وللتصديق) المتقدم (محل خاص) يحل به، (وهو القلب) الصنوبري (و) أما (اللسان) فإنما هو (ترجمانه) الذي يعبر عن ذلك المعنى القائم بالقلب، (وأما التسليم) المذكور (فإنه عام في القلب واللسان والجوارح; فإن كل تصديق بالقلب [ ص: 235 ] فهو تسليم وترك الإباء والجحود) أي: الإنكار (وكذلك الاعتراف باللسان) أي: الإقرار (وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح، فموجب اللغة) بفتح الجيم (أن الإسلام أعم) من الإيمان (و) أن الإيمان أخص من الإسلام (وكأن الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام، فإذا كل تصديق تسليم، وليس كل تسليم تصديقا) ، قال الإمام السبكي: اشتهر المغايرة بالعموم والخصوص المطلق، فكل إيمان إسلام، ولا ينعكس. ثم اختار أن الظاهر تساويهما، أو تلازمهما، بمعنى أن الإسلام موضوع لانقياد الظاهر، مشروطا فيه الإيمان، والإيمان موضوع لتصديق الباطن، مشروطا فيه القول عند الإمكان، فثبت تلازمهما وتغايرهما، ولا يقال: كل إيمان إسلام، ولا كل إسلام إيمان، ولا تنافي أن يكون المتباينان متلازمين; لأن معنى التباين ألا يصدقا على ذات واحدة، وإن تلازما في الوجود، هذا في الإسلام المعتد به، وقول من قال: كل إيمان إسلام ولا عكس; أطلق الإسلام على ما يعتد به وعلى ما لا يعتد به، ثم فيه مع ذلك تجوز، وتحرير العبارة أن يقال: كل إيمان يلزمه الإسلام، ولا ينعكس، وأما قول من قال: كل مؤمن مسلم، ولا ينعكس; فإن جعلت الإيمان لا يحصل مسماه إلا بشرط اللفظ فيصح، وإن جعلته يحصل مسماه لكن لا يعتد به شرعا إلا بالتلفظ لا يصح. اهـ .




الخدمات العلمية