الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1193 ص: واحتجوا على أهل المقالة الأولى في ذلك بما قد حدثنا الحسين بن نصر ، [ ص: 572 ] قال: ثنا يحيى بن حسان ، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال: ثنا عمارة بن القعقاع ، قال: ثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، قال: ثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا نهض في الثانية استفتح ب الحمد لله رب العالمين ولم يسكت" .

                                                قالوا: ففي هذا دليل أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست من فاتحة الكتاب ، ولو كانت من فاتحة الكتاب لقرأ بها في الثانية كما قرأ فاتحة الكتاب، والذين يستحبون الجهر بها في الركعة الأولى لأنها عندهم من فاتحة الكتاب استحبوا ذلك أيضا في الثانية، فلما انتفى بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا أن يكون النبي -عليه السلام- قرأ بها في الثانية، انتفى به أيضا أن يكون قرأ بها في الأولى، فعارض هذا الحديث حديث نعيم بن المجمر ، وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه، وفضل صحة مجيئه على مجيء حديث نعيم .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون الذين ذهبوا إلى ترك الجهر بالبسملة على أهل المقالة الأولى - وهم الذين ذهبوا إلى الجهر بها في ذلك أي فيما ذهبوا إليه من ترك الجهر - بحديث أبي هريرة ، ودلالته على ذلك ظاهرة، وبينها بقوله: "قالوا: ففي هذا دليل..." إلى آخره.

                                                وأخرجه عن الحسين بن نصر بن المعارك ، عن يحيى بن حسان بن حيان التنيسي البكري ، أبي زكرياء البصري ، سكن تنيس - بلدة بساحل مصر واليوم خراب - فنسب إليها، روى له الجماعة سوى ابن ماجه .

                                                عن عبد الواحد بن زياد العبدي أبي عبيدة البصري ، روى له الجماعة.

                                                عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، ابن أخي عبد الله بن شبرمة ، روى له الجماعة.

                                                عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي ، روى له الجماعة، [ ص: 573 ] واسمه هرم ، وقيل: عبد الله ، وقيل: عبد الرحمن ، وقيل: عمرو ، وقيل: جرير .

                                                وأخرجه مسلم : وقال: حدثت عن يحيى بن حسان ويونس المؤدب وغيرهما، قالوا: أخبرنا عبد الواحد بن زياد ، قال: حدثني عمارة بن القعقاع ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

                                                ( قوله: فعارض هذا الحديث) أي حديث أبي هريرة الذي رواه عنه أبو زرعة حديث نعيم بن المجمر الذي رواه عن أبي هريرة المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وأشار بقوله: "وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه" إلى أن حديث نعيم معلول، وهو أن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم بن المجمر من بين أصحاب أبي هريرة ، وهم ثمان مائة ما بين صاحب وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب أبي هريرة أنه حدث عن أبي هريرة أنه -عليه السلام- كان يجهر بالبسملة في الصلاة، ألا ترى كيف أعرض صاحبا الصحيح عن ذكر البسملة في حديث أبي هريرة "كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها..." الحديث.

                                                فإن قيل: نعيم بن المجمر ثقة والزيادة من الثقة مقبولة.

                                                قلت: ليس ذلك مجمعا عليه بل فيه خلاف مشهور، فمنهم من يقبلها مطلقا، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظا ثبتا، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: "من المسلمين" في صدقة الفطر واحتج بها أكثر العلماء، ومن حكم في ذلك حكما عاما فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها كزيادة مالك ، وفي موضع يغلب على الظن صحتها كزيادة سعد بن طارق في حديث: "جعلت لي الأرض مسجدا [ ص: 574 ] وجعلت تربتها لنا طهورا " .

                                                وفي موضع نجزم بخطأ الزيادة كزيادة معمر ومن وافقه قوله: "وإن كان مائعا فلا تقربوه"، وكزيادة عبد الله بن زياد - ذكر البسملة - في حديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" وإن كان معمر ثقة وعبد الله بن زياد ضعيفا؛ فإن الثقة قد يغلط.

                                                وفي موضع يغلب على الظن خطؤها كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه.

                                                رواه البخاري في "صحيحه": وسئل: هل رواها غير معمر ؟ فقال: لا.

                                                وقد رواه أصحاب السنن الأربعة: عن معمر وقال فيه: "ولم يصل عليه" .

                                                فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق ، وقد اختلف عليه أيضا، والصواب أنه قال: "ولم يصل عليه". وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة، وزيادة نعيم بن المجمر التسمية في هذا الحديث مما يتوقف فيه؛ بل يغلب على الظن ضعفه، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها لمن قال بالجهر؛ لأنه قال: "فقرأ أو قال: بسم الله الرحمن الرحيم" وذلك أعم من قراءتها سرا، أو جهرا، أو إنما هو حجة على من لا يرى قراءتها.

                                                فإن قيل: لو كان أبو هريرة أسر بالبسملة ثم جهر بالفاتحة لم يعبر عن ذلك نعيم بعبارة واحدة متناولة للفاتحة والبسملة تناولا واحدا، ولقال: فأسر بالبسملة ثم جهر بالفاتحة، والصلاة كانت جهرية، بدليل تأمينه وتأمين المأمومين.

                                                قلنا: ليس الجهر فيه بصريح، ولا ظاهر يوجب الحجة، ومثل هذا لا يقدم على [ ص: 575 ] النص الصريح المقتضي للإسرار، ولو أخذ الجهر من هذا الإطلاق لأخذ منه أنها ليست من أم القرآن؛ فإنه قال: "فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ أم القرآن" والعطف يقتضي المغايرة.

                                                وجواب آخر عن هذا الحديث: أن قوله: "فقرأ أو قال" ليس بصريح أنه سمعها منه؛ إذ يجوز أن يكون أبو هريرة أخبر نعيما أنه قرأها سرا، ويجوز أن يكون سمعها منه في مخافتته لقربه منه، كما روى عنه من أنواع الاستفتاح وألفاظ الذكر في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده، ولم يكن ذلك منه دليلا على الجهر.

                                                وجواب آخر: أن التشبيه لا يقتضي أن يكون مثله من كل وجه، بل يكفي في غالب الأفعال، وذلك يتحقق في التكبير وغيره دون البسملة، فإن التكبير وغيره من أفعال الصلاة ثابت صحيح عن أبي هريرة ، وكان مقصوده الرد على من تركه، وأما التسمية ففي صحتها عنه نظر، فينصرف إلى الصحيح الثابت دون غيره، ومما يلزمهم على القول بالتشبيه من كل وجه أن يقولوا بالجهر بالتعوذ. لأن الشافعي روى: أخبرنا ابن محمد الأسلمي ، عن ربيعة بن عثمان ، عن صالح بن أبي صالح : "أنه سمع أبا هريرة وهو يؤم الناس رافعا صوته في المكتوبة إذا فرغ من أم القرآن: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم" ، فهلا أخذوا بهذا كما أخذوا بجهر البسملة.

                                                مستدلين بما في "الصحيحين" عنه: "فما أسمعنا -عليه السلام- أسمعناكم وما أخفانا أخفينا عنكم" ، وكيف يظن بأبي هريرة أنه يريد التشبيه في الجهر بالبسملة وهو الراوي عن النبي -عليه السلام- قال: "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: [ ص: 576 ] أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" .

                                                أخرجه مسلم في "صحيحه": عن سفيان بن عيينة ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة ... فذكره.

                                                وعن مالك بن أنس ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة .

                                                وعن ابن جريج عن العلاء بن عبد الرحمن .

                                                وهذا الحديث ظاهر في أن البسملة ليست من الفاتحة ، وإلا لابتدأ بها؛ لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة حتى إنه لم يخل منها بحرف، والحاجة إلى قراءة البسملة أمس ليرتفع الإشكال، وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: حديث العلاء هذا قاطع تعلق المتنازعين، وهو نص لا يحتمل التأويل، ولا أعلم حديثا في سقوط البسملة أبين منه، واعترض بعض المتأخرين على هذا الحديث بأمرين.

                                                أحدهما: لا (يعتبر) بكون هذا الحديث في "صحيح مسلم " فإن العلاء بن عبد الرحمن تكلم فيه ابن معين ، فقال: ليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث، ليس بذاك، هو ضعيف. روي عنه هذه الألفاظ جميعا، وقال ابن عدي : ليس بالقوي. وقد انفرد بهذا الحديث فلا يحتج به.

                                                الثاني: قال: وعلى تقدير صحته فقد جاءت في بعض الروايات عنه ذكر التسمية.

                                                [ ص: 577 ] كما أخرجه الدارقطني : عن عبد الله بن زياد بن سمعان ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها له، يقول عبدي إذا افتتح الصلاة: بسم الله الرحمن الرحيم فيذكرني عبدي، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين فيقول: حمدني عبدي..." إلى آخره، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة ولكنها مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية.

                                                قلت: هذا القائل حمله الجهل وفرط التعصب ورداءة الرأي والفكر. وعلى أنه ترك الحديث الصحيح وضعفه لكونه غير موافق لمذهبه، وقال: لا (يعتبر) بكونه في مسلم مع أنه قد رواه عن العلاء الأئمة الثقات الأثبات كمالك وسفيان بن عيينة وابن جريج وشعيب وعبد العزيز الدراوردي وإسماعيل بن جعفر ومحمد بن إسحاق والوليد بن كثير وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق، وهذه الرواية مما انفرد بها عنه ابن سمعان وهو كذاب، ولم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا في المصنفات المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، وإنما رواه الدارقطني في "سننه" التي يروي فيها غرائب الحديث، وقال عمر بن عبد الواحد : سألت مالكا عند أبي عن ابن سمعان فقال: كان كذابا. وقال يحيى بن بكير : قال هشام بن عروة فيه: فقد كذب علي وحدث عني بأحاديث لم أحدثه بها. وعن أحمد بن حنبل : متروك الحديث. وسئل ابن معين عنه فقال: كان كذابا. وقيل: لابن إسحاق : إن ابن سمعان يقول: سمعت مجاهدا ، فقال: لا إله إلا الله أنا والله أكبر منه، ما رأيت مجاهدا ولا سمعت منه. وقال ابن حبان : كان يروي عمن لم يره، ويحدث بما لم يسمع. وقال أبو داود : متروك الحديث، وكان من الكذابين. وقال النسائي : متروك.

                                                [ ص: 578 ] وكيف يعل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" بالحديث الضعيف الذي رواه الدارقطني عن كذاب متروك لا شيء، وهلا جعلوا الحديث الصحيح علة للضعيف، ومخالفة أصحاب أبي هريرة الثقات الأثبات لنعيم ؛ موجبا لرده، إذ مقتضى العلم أن يعلل الحديث الضعيف بالحديث الصحيح، كما فعلنا نحن والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية