الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                966 ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال: ثنا أسد بن موسى ، قال: ثنا شعبة ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت جابر بن زيد يحدث، عن ابن عباس قال: " صلى رسول الله -عليه السلام- ثمانيا جميعا وسبعا جميعا" .

                                                حدثنا إسماعيل ، قال: ثنا محمد بن إدريس ، قال: ثنا سفيان ، قال: ثنا عمرو بن دينار ، قال: أنا جابر بن زيد ، أنه سمع ابن عباس يقول: " صليت مع النبي -عليه السلام- بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا". قلت لأبي الشعثاء : أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك .

                                                [ ص: 239 ] حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، قال: أخبرني مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس أنه قال: " صلى رسول الله -عليه السلام- الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر " .

                                                حدثنا يزيد بن سفيان ، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال: ثنا قرة بن خالد ، عن أبي الزبير ... فذكر بإسناده مثله.

                                                قلت: " وما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته " .

                                                حدثنا أبو بشر الرقي ، قال: ثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ... فذكر مثله بإسناده.

                                                حدثنا ربيع الجيزي ، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، قال: ثنا داود بن قيس الفراء ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ... مثله، غير أنه قال: " في غير سفر ولا مطر " .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا حجاج بن المنهال ، قال: ثنا حماد ، عن عمران بن حدير ، عن عبد الله بن شقيق : " أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخر صلاة المغرب ذات ليلة، فقال رجل: الصلاة، الصلاة، فقال: لا أم لك، أتعلمنا بالصلاة، وقد كان النبي -عليه السلام- ربما جمع بينهما بالمدينة " .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه سبع طرق عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي صحاح، ورجالها كلهم ثقات:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري ، عن أسد بن موسى أسد السنة ، عن شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن دينار المكي ، عن جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء الجوفي - بالجيم - عن عبد الله بن عباس .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا أبو النعمان ، قال: ثنا حماد - هو ابن زيد - عن عمرو بن دينار ، عن جابر ، عن زيد ، عن ابن عباس : "أن النبي -عليه السلام- صلى بالمدينة [ ص: 240 ] سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال أيوب : لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى" .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا سليمان بن حرب ومسدد ، قالا: ثنا حماد ، ثنا عمرو بن عون ، أنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال: "صلى بنا رسول الله -عليه السلام- بالمدينة ثمانيا وسبعا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء" .

                                                قوله: "صلى رسول الله -عليه السلام- ثمانيا جميعا" أي ثماني ركعات، وأراد بها الظهر والعصر، فإنه جمع بينهما في الحضر، تفسره الرواية الأخرى وهي قوله: " بالمدينة ".

                                                قوله: "سبعا جميعا" أي سبع ركعات، وأراد بها المغرب والعشاء، فإنه جمع بينهما في الحضر أيضا، والمراد منه أنه جمع بينهما فعلا لا وقتا؛ على ما يجيء إن شاء الله.

                                                الثاني: عن إسماعيل بن يحيى المزني خال الطحاوي وأكبر أصحاب الشافعي ، عن محمد بن إدريس الشافعي الإمام ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار المكي ، عن جابر بن زيد الأزدي ، أنه سمع ابن عباس ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال: ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ... نحو رواية الطحاوي وليس في لفظه: " بالمدينة ".

                                                قوله: "قلت لأبي الشعثاء " القائل هو عمرو بن دينار ، وأبو الشعثاء كنية جابر بن زيد ، وهذا الكلام يؤيد تأويل الحنفية في قولهم: إنه -عليه السلام- جمع بين الظهرين والعشاءين فعلا لا وقتا .

                                                فائدة:

                                                كل ما قال الشافعي : حدثنا سفيان ، المراد منه: هو سفيان بن عيينة ؛ لأن الشافعي لم يدرك سفيان الثوري ؛ لأن وفاته في سنة خمس وخمسين ومائة، والشافعي مولده في خمسين ومائة، وأما سفيان بن عيينة فإن وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائة بمكة .

                                                [ ص: 241 ] الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ، قال: قرأت على مالك ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: "صلى بنا رسول الله -عليه السلام- الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف ولا سفر" .

                                                ورواه أبو داود : عن القعنبي ، عن مالك ... نحوه، وفي آخره: "قال مالك : أرى ذلك كان في مطر".

                                                الرابع: عن يزيد بن سنان ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن قرة بن خالد ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعا، عن زهير - قال ابن يونس : ثنا زهير - قال: ثنا أبو الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "صلى لنا رسول الله -عليه السلام- الظهر والعصر جميعا بالمدينة ، في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير : فسألت سعيدا ، لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته" .

                                                وأخرجه أبو داود وقال: ثنا عثمان بن أبي شيبة ، نا أبو معاوية ، نا الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله -عليه السلام- الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته" .

                                                [ ص: 242 ] وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا.

                                                وقال الخطابي : هذا الحديث لا يقول به أكثر العلماء، وإسناده جيد إلا ما تكلموا فيه من أمر حبيب ، وكان ابن المنذر يقول به ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث، وسمعت أبا بكر القفال يحكيه عن أبي إسحاق المروزي ، قال ابن المنذر : ولا معنى يحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله: "أراد أن لا يحرج أمته". وحكي عن ابن سيرين : "أنه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شتاء ما لم يتخذه عادة" . وتأوله بعضهم على أن يكون ذلك في حال المرض؛ وذلك لما فيه من إرفاق المريض ودفع المشقة، عنه فحمله على ذلك أولى من صرفه إلى من لا عذر له ولا مشقة عليه من الصحيح البدن المنقطع العذر، وقد اختلف الناس في ذلك فرخص عطاء بن أبي رباح للمريض في الجمع بين الصلاتين ، وهو قول مالك وأحمد بن حنبل .

                                                وقال أصحاب الرأي: يجمع المريض بين الصلاتين، إلا أنهم أباحوا ذلك على شرطهم في جمع المسافر بينهما، ومنع الشافعي من ذلك في الحضر إلا للمطر.

                                                قلت: كل تأويل أولوه في هذا الحديث يرده قول ابن عباس : "أراد أن لا يحرج أمته". ما خلا التأويل الذي أوله الطحاوي على تأخير الأولى آخر وقتها وتقديم الأخرى لأول وقتها على ما تأوله أبو الشعثاء جابر بن زيد وعمرو بن دينار في صحيح مسلم ، وقال الترمذي في كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمم على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.

                                                قلت: هذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو منسوخ دل الإجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، فإن [ ص: 243 ] جماعة ذهبوا إلى العمل بظاهره، وآخرين أولوه كما ذكرنا، والصواب ما قاله الطحاوي - رحمه الله -.

                                                الخامس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن عبد الملك بن جريج ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه عبد الرزاق : عن الثوري ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله -عليه السلام- بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر ولا خوف، قال: قلت لابن عباس : ولم تراه فعل ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أحدا من أمته" .

                                                السادس: عن ربيع بن سليمان الجيزي ، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، عن داود بن قيس الفراء ، عن صالح بن نبهان مولى التوأمة ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا داود بن قيس الفراء ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله -عليه السلام- بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال: أراد التوسعة على أمته" .

                                                وأخرجه عبد الرزاق أيضا: عن داود بن قيس ... إلى آخره نحوه، ولفظه: "قال: قلت لابن عباس : لم تراه فعل ذلك؟" والباقي مثله.

                                                السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن حجاج بن المنهال ، عن حماد بن سلمة ، عن عمران بن حدير السدوسي ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي أبي عبد الرحمن البصري ، أن ابن عباس ... إلى آخره.

                                                [ ص: 244 ] وأخرجه مسلم : ثنا ابن أبي عمر ، ثنا وكيع ، ثنا عمران بن حدير ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي ، قال: "قال رجل لابن عباس : الصلاة. فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: لا أم لك أتعلمنا بالصلاة؟! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله -عليه السلام- .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع ... إلى آخره نحوه، وفي آخره: "يعني في السفر".

                                                قوله: "لا أم لك" ذم وسب؛ أي أنه لقيط لا تعرف له أم، وقيل: قد تقع مدحا بمعنى التعجب منه وفيه بعد، وخبر "لا" محذوف، تقديره: لا أم معروفة لك.

                                                قوله: "أتعلمنا" والهمزة فيه للاستفهام، وهو من الإعلام، ومراده من هذا: نسبته إلى جهله عن سبب تأخيره الصلاة، و: "الواو" في قوله: "وقد كان النبي -عليه السلام-" للحال.

                                                وهذا أيضا محمول على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الصلاة الأخرى في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلا لا وقتا.




                                                الخدمات العلمية