الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1004 ص: وقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- خلاف ذلك أيضا:

                                                حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن النبي -عليه السلام- قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر رجلا بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء" .

                                                [ ص: 297 ] حدثنا ربيع المؤذن ، قالا: أنا عبد الله بن وهب ، قال: أخبرني ابن أبي الزناد ، ومالك عن أبي الزناد ... فذكر مثله بإسناده.

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش ، قال: حدثني أبو صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام- قال: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم آخذ شعلا من نار، وأحرق على من لم يخرج إلى الصلاة بيته".

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال: حدثنا عفان ، قال: ثنا حماد ، قال: أنا عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-:
                                                "أنه أخر عشاء الآخرة حتى كان ثلث الليل - أو قربه - ثم جاء وفي الناس رقد وهم عزون، فغضب غضبا شديدا، ثم قال: لو أن رجلا ندب الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوا له، وهم يتخلفون عن هذه الصلاة، لهممت أن آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أتخلف على أهل هذه الدورة الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأضرمها عليهم بالنيران".

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو غسان ، قال: ثنا أبو بكر ، عن عاصم ... فذكر مثله بإسناده.

                                                قال أبو جعفر - رحمه الله -: فهذا أبو هريرة -رضي الله عنه- يخبر أن الصلاة التي قال فيها النبي -عليه السلام- هذا القول هي العشاء، ولم يدل ذلك على أنها الصلاة الوسطى، بل قد روى هو عن النبي -عليه السلام- ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- خلاف ما روي عن ابن مسعود ؛ لأن ابن مسعود أخبر أن قول النبي -عليه السلام-: "لينتهين رجال، أو لأحرقن بيوتهم" إنما هو لأجل الجمعة؛ قال: وأبو هريرة ذكر أن ذلك إنما هو لأجل صلاة العشاء، ولم يدل ذلك على أنها هي الصلاة الوسطى؛ فحينئذ استدلال أهل المقالة الأولى بهذا الحديث على أن الصلاة الوسطى هي الظهر غير تام، على أن أبا هريرة -رضي الله عنه- روى عن النبي -عليه السلام- خلاف هذا أيضا، على ما يجيء إن شاء الله تعالى.

                                                [ ص: 298 ] ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة عن خمس طرق صحاح:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الزناد - بالنون - عبد الله بن ذكوان ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه البخاري : عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ... إلى آخره نحوه.

                                                ومسلم : عن عمرو الناقد ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : "أن رسول الله -عليه السلام- فقد ناسا في بعض الصلوات، فقال: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها، يعني صلاة العشاء" .

                                                وأبو داود : عن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق يعني برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" .

                                                وابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، نحو رواية أبي داود .

                                                قوله: "لقد هممت" أي: قصدت.

                                                وقوله: "أن آمر" مفعول "لهممت" و: "أن" مصدرية.

                                                وقوله: "ثم آمر" منصوب عطفا على "أن آمر" الأول، وكذلك ثم آمر الثالث.

                                                [ ص: 299 ] قوله: "ثم أخالف" أي: آتيهم من خلفهم، أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصلاة وأرجع إليهم وآخذهم على غفلة، أو يكون بمعنى: أتخلف عن الصلاة بمعاقبتهم، أو أخالف ظنهم بي في الصلاة بقصدي إليهم.

                                                قوله: "فأحرق" من التحريق أو من الإحراق، وفي الأول من المبالغة ما ليس من الثاني.

                                                قوله: "عظما سمينا" يريد بضعة اللحم السمين على عظمه، ضربه رسول الله -عليه السلام- مثلا في التفاهة، كما قال - عز وجل -: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك يريد الشيء الكثير ولم يرد القنطار بعينه ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك يريد الشيء الحقير ولم يرد الدينار بعينه.

                                                قوله: "أو مرماتين" يروى بكسر الميم وفتحها، وميمها زائدة، وهي تثنية مرماة، وهي ظلف الشاة. وقيل: ما بين ظلفيها، وقيل: المرماة بالكسر: السهم الصغير الذي يتعلم به الرمي، وهو أحقر السهام وأرذلها، أي: لو دعي إلى أن يعطى سهمين من هذه السهام لأسرع الإجابة.

                                                وقال الزمخشري : هذا ليس بوجيه، ويدفعه قوله في الرواية الأخرى: "لو دعي إلى مرماتين أو عرق" . وقال أبو عبيد : هذا حرف لا أدري ما وجهه، إلا أنه هكذا يفسر بما بين ظلفي الشاة، يريد به حقارته. ويقال: المرماتان: حديدتان من حدايد كانوا بها وهي ملس كالأسنة، كانوا يثبتونها في الأكوام والأغراض.

                                                قوله: "حسنتين" صفة للمرماتين من الحسن والجودة، وإنما وصفهما بالحسن لأنه عطفهما على العظم السمين، ويروى: "جشبتين" بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وفتح الموحدة، والجشب: الغليظ، وفي الحديث: "أنه -عليه السلام- كان يأكل الجشب" . أي الغليظ الخشن من الطعام، وقيل: غير المأدوم، وكل بشع الطعم جشب، ويروى خشبتين بفتح الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة، والخشب اليابس من الخشب، بفتحتين.

                                                [ ص: 300 ] ويستنبط منه أحكام:

                                                الأول: استدل به عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وابن خزيمة وداود : أن الجماعة فرض، وفي "شرح المهذب": قيل: إنه قول الشافعي . وعن أحمد : واجبة وليست بشرط، وقالت الجمهور: ليست بفرض عين، واختلفوا هل هي سنة أم فرض كفاية؟ والمختار عند الشافعي أنها فرض كفاية، وعند عامة مشايخنا واجبة، وقد قال بعض أصحابنا: سنة مؤكدة، وهو قول القدوري أيضا، وفي "المفيد": الجماعة واجبة، وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وفي "شرح خواهر زاده" هي سنة مؤكدة غاية التأكيد. وقيل: فرض كفاية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما، وهو قول الشافعي المختار.

                                                وقيل: سنة، وفي "الجواهر": عن مالك : سنة مؤكدة، وقيل: فرض كفاية.

                                                والجواب عن الحديث من وجوه:

                                                - الأول: أن هذا في المنافقين ويشهد له قوله: "لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا..." إلى آخره، وهذه ليست صفة المؤمن لا سيما أكابر المؤمنين وهم الصحابة -رضي الله عنهم- وإذا كان في المنافقين كان التحريق للنفاق لا لترك الجماعة؛ فلا يتم الدليل.

                                                - الثاني: أنه -عليه السلام- هم ولم يفعل.

                                                - والثالث: أنه -عليه السلام- لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة؛ وهو موضع البيان.

                                                الثاني: فيه دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال؛ لأن تحريق البيوت عقوبة مالية، وأجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغال من الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما.

                                                الثالث: فيه دليل على قتل تارك الصلاة متهاونا ، قاله عياض .

                                                قلت: يرد هذا قوله -عليه السلام-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث..." . الحديث، والحديث محمول على التهديد والتشديد.

                                                [ ص: 301 ] الرابع: فيه الإعذار قبل العقوبة بالتهديد بالقول والوعيد.

                                                الخامس: فيه جواز أخذ أهل الجنايات والجرائم على غرة والمخالفة إلى منازلهم وبيوتهم.

                                                السادس: فيه معرفة يمين رسول الله -عليه السلام-، وأنه كان يحلف على ما يريد بالله، في ذلك رد على قول من يقول: لا يحلف بالله صادقا ولا كاذبا، وفي قوله -عليه السلام-: "من كان حالفا فليحلف بالله" كفاية.

                                                السابع: أن الصلوات يؤذن لها.

                                                الثامن: فيه إجازة إمامة المفضول بحضور الفاضل.

                                                التاسع: فيه إباحة عقوبة من تأخر عن شهود الجماعة بغير عذر.

                                                العاشر: أن هذه الصلاة التي هم بتحريقهم للتخلف عنها هي صلاة العشاء؛ ولذلك ذكره الطحاوي ها هنا، وفي رواية: أنها الجمعة، وقد مر ذكرها، وفي رواية: أنها الصلاة الفرض مطلقا، والكل له وجه، ولا منافاة بينها. والله أعلم.

                                                الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن ، عن عبد الله بن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وعن مالك كلاهما، عن أبي الزناد ، عن عبد الله بن ذكوان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه مالك في "موطئه": عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء" .

                                                الثالث: عن فهد بن سليمان الكوفي ، عن عمرو بن حفص الكوفي [ ص: 302 ] شيخ البخاري ومسلم ، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي قاضيها، أحد أصحاب أبي حنيفة ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ذكوان الزيات ، عن أبي هريرة ، والكل رجال الصحيح ما خلا فهدا .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب - واللفظ لهما - قالا: أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق - يعني برجال معهم حزم من حطب - إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" .

                                                قوله: "على المنافقين" وهم الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ويظهرون المحبة لرسول الله -عليه السلام- وفي قلوبهم بغض وعداوة، وقد قيل: إن هذا في حق المؤمنين، ولكن ذكر بهذه العبارة تغليظا وتشديدا في التهديد وهذا لا يصح؛ لأنه من المعلوم من حال الصحابة عدم التخلف عنه -عليه السلام- ويشهد على ذلك أنه ورد في بعض الأحاديث "ثم أحرق بيوتا على من فيها" .

                                                قوله: "ولو حبوا" نصب بفعل محذوف تقديره: ولو كانوا يحبون حبوا، والحبو: أن يمشي على يديه وركبتيه أو إسته، وحبا البعير: إذا برك أو أبرك ثم زحف من الإعياء، وحبا الصبي إذا زحف على إسته.

                                                قوله: "شعلا" جمع شعلة النار.

                                                قوله: "بيته" مفعول لقوله أحرق.

                                                الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عفان بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة هو ابن أبي النجود الأسدي الكوفي أبو بكر المقرئ أحد مشايخ أبي حنيفة ، عن أبي صالح ذكوان ، عن أبي هريرة .

                                                [ ص: 303 ] وأخرجه أحمد في "مسنده": عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : "أن رسول الله -عليه السلام- أخر عشاء الآخرة..." . آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

                                                قوله: "أو قربه" بالرفع، عطف على قوله: "ثلث الليل" أي: أو قرب ثلث الليل.

                                                قوله: "رقد" بضم الراء وفتح القاف المشددة: جمع راقد، كالركع جمع راكع، والسجد جمع ساجد.

                                                قوله: "وهم عزون" أي: متفرقون، وهو جمع عزة وهي الحلقة المجتمعة من الناس وأصلها عزوة في الواو، وجمعت جمع السلامة على غير قياس في جمع.

                                                قوله: "ندب الناس" أي: دعاهم.

                                                قوله: "إلى عرق" بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وهو العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم، وجمعه عراق، وهو جمع نادر، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك.

                                                قوله: "ثم أتخلف" أي آتيهم من خلفهم آخذهم على غفلة وغزة.

                                                قوله: "يتخلفون عن هذه الصلاة" أي: يتركون الحضور إليها، على معنى أنهم يجعلونها [خلفهم].

                                                قوله: "فأضرمها" من أضرمت النار إذا أوقدتها وهو بنصب الميم عطفا على ثم أتخلف، فافهم.

                                                الخامس: عن فهد بن سليمان ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري ، عن أبي بكر بن أبي عياش الأسدي الكوفي المقرئ ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة .

                                                [ ص: 304 ] وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا أسود بن عامر ، نا أبو بكر ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: "جاء رسول الله -عليه السلام- إلى المسجد، فرآهم عزين متفرقين، قال: فغضب غضبا شديدا ما رأيناه غضب غضبا أشد منه، قال: والله لقد هممت أن آمر رجلا يؤم الناس، ثم أتتبع هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة في دورهم فأحرقها عليهم" .



                                                الخدمات العلمية