الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1195 ص: وقد روي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا هوذة بن خليفة ، عن عوف ، عن يزيد الفارسي ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من السبع الطول، وإلى براءة وهم من المئين فقرنتم بينهما، وجعلتموها في السبع الطول ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم فقال عثمان -رضي الله عنه-: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينزل عليه الآية، فيقول: اجعلوها في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وتوفي رسول الله -عليه السلام- ولم أسأله عن ذلك، فخفت أن تكون منها، فقرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم وجعلتهما من السبع الطول" .

                                                [ ص: 584 ] قال أبو جعفر - رحمه الله -: فهذا عثمان -رضي الله عنه- يخبر في هذا الحديث أن بسم الله الرحمن الرحيم لم تكن عنده من السور، وأنه إنما كان يكتبها في فصل السور ، وهي غيرهن؛ فهذا خلاف ما ذهب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما- من ذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا إلى دليل يدل على أن البسملة ليست من أوائل السور ، فإذا لم تكن من السور لم تكن من الفاتحة أيضا؛ لأنها من السور، وهو أيضا خلاف ما ذهب إليه ابن عباس ، وهو الذي أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي ، عن هوذة بن خليفة بن عبد الله الثقفي البكراوي بن الأشهب البصري ، وثقه ابن حبان ، وقال أبو حاتم : صدوق. وقال النسائي : ليس به بأس.

                                                عن عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بالأعرابي ، روى له الجماعة.

                                                عن يزيد الفارسي البصري ، وقيل: إنه يزيد بن هرمز المدني ، والصحيح أنه غيره، وفي بعض النسخ: يزيد الرقاشي ، وليس بصحيح؛ لأن يزيد الرقاشي يزيد بن أبان الرقاشي ، وهو لم يدرك ابن عباس ، وإنما روى عن أنس بن مالك ، وكلاهما من أهل البصرة ، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي ، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي .

                                                وهذا إسناد صحيح، وأخرجه أبو داود : ثنا عمرو بن عون ، أنا هشيم ، عن عوف ، عن يزيد الفارسي ، قال: سمعت ابن عباس قال: "قلت لعثمان : ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطول ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال عثمان -رضي الله عنه-: كان النبي -عليه السلام- مما تنزل عليه الآيات، فيدعو بعض من كان يكتب له، ويقول: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطول ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم " .

                                                [ ص: 585 ] وأخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن وقال: ثنا محمد بن بشار ، قال: ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهل بن يوسف ، قالوا: نا عوف بن أبي جميلة ، قال: حدثني يزيد الفارسي ، قال: حدثني ابن عباس قال: "قلت لعثمان بن عفان -رضي الله عنهم-: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ؟ ووضعتموهما في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان -رضي الله عنه-: كان رسول الله -عليه السلام- مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعى بعض من كان يكتبه، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله -عليه السلام- ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتهما في السبع الطول" .

                                                قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عوف ، عن يزيد الفارسي ، عن ابن عباس -رضي الله عنهم-.

                                                فهذا عثمان -رضي الله عنه- لو رأى البسملة من السور لكتبها بين الأنفال وبراءة، ولم تكن عنده من السور، وأنه كان إنما كان يكتبها في فصل السور بينها وبين غيرها.

                                                فإن قيل: إذا لم تكن آية من أوائل السور، فينبغي أن لا يقال: إنها آية من القرآن بأخبار الآحاد.

                                                قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأنه ليس على النبي -عليه السلام- توقيف الأمة على مقاطع الآي ومقاديرها، ولم نتعبد بمعرفتها؛ فجاز إثباتها آية بأخبار الآحاد، وأما موضعها من [ ص: 586 ] السور فهو كإثباتها من القرآن، فسبيله النقل المتواتر ولا يجوز بأخبار الآحاد، ولا بالنظر والمقاييس كسائر السور، وكموضعها في سورة النمل، ألا ترى أنه قد كان يكون من النبي -عليه السلام- توقيف على مواضع الآي كما في رواية ابن عباس عن عثمان في هذا الحديث، ولم يوجد من النبي -عليه السلام- توقيف في سائر الآي على مبادئها ومقاطعها، فثبت أنه غير مفروض علينا مقادير، فإذ قد ثبت أنها آية، فليست تخلو من أن تكون آية في كل موضع هي مكتوبة فيه من القرآن وإن لم تكن من أوائل السور، أو تكون آية منفردة كررت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، فالأصلي أن تكون آية في كل موضع هي مكتوبة فيه لنقل الأمة أن جميع ما في المصحف من القرآن، ولم تخص شيئا منه من غيره، وليس وجودها مكررة في هذه المواضع مخرجها من أن تكون من القرآن، لوجود كثير مثل ذلك مذكور على وجه التكرار، ولا يخرجه ذلك من أن يكون كل واحد آية منه، نحو قوله تعالى: الحي القيوم من سورة البقرة، ومثله في سورة آل عمران ، ونحو قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان كل آية منها منفردة في موضعها من القرآن لا على معنى تكرار آية واحدة، وكذلك بسم الله الرحمن الرحيم وقول النبي -عليه السلام-: إنها آية يقتضي أن تكون آية في كل موضع ذكرت فيه، والله أعلم.

                                                قوله: ( أن عمدتم ) أي: أن قصدتم و: "أن" في محل الجر في تأويل المصدر، أي على عمدكم إلى الأنفال.

                                                قوله: ( وهي من السبع الطوال ) وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة، و: "الطول" بضم الطاء وفتح الواو جمع "الطولى" تأنيث الأطول، مثل الكبر في الكبرى وهذا البناء يلزمه الألف واللام أو الإضافة.

                                                [ ص: 587 ] قوله: ( وهي من المئين ) أي من السور التي تشتمل على أكثر من مائة آية، والمئون - بكسر الميم -: جمع مائة، وبعضهم يقول: مؤون - بالضم - وأصل مائة مائي، والهاء عوض الياء.

                                                قوله: ( وكانت قصتها شبيهة بقصتها ) أي: قصة براءة كانت شبيهة بقصة الأنفال؛ لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذها.

                                                قوله: ( فخفت أن تكون منها ) أي: أن تكون سورة براءة من الأنفال، فلأجل ذلك وضعها في السبع الطول، ولم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ويقال: تركت البسملة بينهما؛ لأنها نزلت لرفع الأمان، و: بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وقيل: لما اختلفت الصحابة في أنها سورة واحدة، وهي سابعة السبع الطول، أو سورتان فتركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم الله الرحمن الرحيم وقيل: لم تكتب البسملة لأنها رحمة، والسورة في المنافقين.




                                                الخدمات العلمية