الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وقع في البئر واحد خلف واحد فهلكوا ، أو هلك بعضهم ؛ فله حالان :

                                                                                                                                                                        الأولى : أن يقع الثاني بغير جذب الأول ؛ فإن مات الأول ، فالثاني ضامن ؛ فإن تعمد إلقاء نفسه عليه ، ومثله يقتل مثله غالبا لضخامته وعمق البئر وضيقها لزمه القصاص . وإن تعمده لكنه لا يقتل غالبا ؛ فهو شبه عمد . وإن لم يتعمد ووقع في البئر بغير اختياره ، أو لم يعلم وقوع الأول ؛ فهو خطأ محض .

                                                                                                                                                                        ثم أطلق مطلقون أنه إذا آل الأمر إلى المال ؛ وجبت دية كاملة ، وقال آخرون : إنما على الثاني نصف الدية ، لأن الأول مات بوقوعه في البئر وبوقوع الثاني عليه ، ويكون النصف الآخر على الحافر ؛ إن كان الحفر عدوانا ؛ وإلا فمهدر . وهذا أصح عند المتولي وغيره .

                                                                                                                                                                        لكن لو نزل الأول إلى البئر ولم ينصدم ؛ فوقع عليه الثاني ؛ تعلق بوقوعه كل الدية . أما إذا مات الثاني ؛ فإن تعمد إلقاء النفس فيها ، أو لم يكن الحفر عدوانا ؛ فهو هدر ؛ وإلا تعلق الضمان بعاقلة الحافر . وإن ماتا معا ؛ فالحكم في حق كل واحد ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                        ولو تردى في البئر ثلاثة ؛ واحد بعد واحد فوجهان : أحدهما : تجب دية الأول على عاقلة الثاني والثالث ؛ قاله الشيخ أبو حامد . والثاني : يجب على عاقلتهما ثلثا الدية ، والثلث الباقي على عاقلة الحافر إن كان متعديا ؛ وإلا فهو هدر . قاله القاضي أبو الطيب واختاره ابن الصباغ .

                                                                                                                                                                        الحالة الثانية : أن يقع الثاني في البئر بجذب الأول ، فإذا تزلق على طرف بئر ، فجذب غيره ووقع في البئر ، ووقع الثاني فوقه فماتا ؛ فالثاني هلك بجذب الأول ؛ فكأنه أخذه وألقاه في البئر إلا أنه قصد [ ص: 329 ] الاستمساك والتحرز عن الوقوع ؛ فكان مخطئا ؛ فيجب ضمان الثاني على عاقلة الأول . وأما الأول ؛ فإن كان الحفر عدوانا فوجهان :

                                                                                                                                                                        أحدهما يحكى عن الخضري : أنه مهدر ، وأصحهما : تجب نصف ديته على عاقلة الحافر ويهدر النصف ، لأنه مات بسببين : صدمة البئر وثقل الثاني منسوب إليه ؛ وإن لم يكن الحفر عدوانا ؛ فالأول مهدر بلا خلاف ، وليحمل على هذه الحالة إطلاق من أطلق إهدار الأول ؛ وقد أطلقه كثيرون .

                                                                                                                                                                        ولو كانت الصورة كما ذكرنا ، وجذب الثاني ثالثا ، وماتوا جميعا فأما الأول ففيه وجهان ؛ أحدهما : تهدر نصف ديته لجذبه الثاني ، ويجب نصفها على عاقلة الثاني لجذبه الثالث .

                                                                                                                                                                        وهذا تفريع على أنه لا أثر للحفر مع الجذب ؛ وأصحهما : أنه مات بثلاثة أسباب : صدمة البئر وثقل الثاني والثالث ؛ فهدر ثلث الدية لجذبه الثاني ، ثم ينظر إن كان الحفر عدوانا ، وجب ثلثها على عاقلة الحافر ، وثلثها على عاقلة الثاني بجذبه الثالث .

                                                                                                                                                                        وإن لم يكن الحفر عدوانا ، أهدر ثلث آخر ووجب ثلث على عاقلة الثاني ، وقال ابن الحداد : مات بالوقوع في البئر وبجذبة الثاني ؛ فيهدر نصف دية ، ويجب نصفها على عاقلة الحافر ، وأعرض عن تأثره بثقل الثالث ؛ وهذا ضعيف عند الأصحاب . وأما الثاني فمات بجذب الأول ، وبثقل الثالث ؛ وثقل الثالث حصل بفعله ؛ فيهدر نصف ويجب نصف على عاقلة الأول . وأما الثالث فتجب جميع ديته على الثاني على الأصح ، وقيل : على الأول والثاني ؛ والمراد عاقلتهما . ولو كانت الصورة بحالها وجذب الثالث رابعا وماتوا ؛ وجب جميع دية الرابع بلا خلاف . وهل تتعلق بالثالث وحده أم بالثلاثة ؟ وجهان ؛ أصحهما : الأول .

                                                                                                                                                                        وأما ديات الثلاثة ففيها أوجه ؛ أصحها : أن الأول مات بأربعة أسباب : صدمة البئر ، وثقل الثلاثة ؛ فيهدر ربع ديته لجذبه الثاني ، [ ص: 330 ] ويجب الربع على عاقلة الحافر إن كان الحفر عدوانا . وإن لم يكن عدوانا أهدر أيضا . ويجب ربع على عاقلة الثاني ، وربع على عاقلة الثالث . وأما الثاني ؛ فلا أثر للحفر في حقه وقد مات بجذب الأول ، وثقل الثالث والرابع ؛ فيهدر ثلث ديته ، ويجب ثلثها على عاقلة الأول وثلثها على عاقلة الثالث . وأما الثالث فمات بجذب الثاني وثقل الرابع ؛ فيهدر نصف ديته ، ويجب نصفها على عاقلة الثاني .

                                                                                                                                                                        والوجه الثاني لا يجب للأول شيء ؛ لأنه باشر قتل نفسه بجذب الثاني وما تولد منه ، وأما الثاني فيهدر نصف ديته ويجب نصفها على عاقلة الأول ، وأما الثالث فيهدر نصف ديته ويجب نصفها على عاقلة الثاني ؛ ومقتضى هذا الوجه أن لا يجب للأول في صورة الثلاثة شيء أصلا وإن لم يذكروه هناك .

                                                                                                                                                                        والوجه الثالث أنه تجعل دية الثلاثة أثلاثا ؛ فيهدر ثلث دية كل واحد ، ويجب الثلثان من دية الأول على عاقلتي الثاني والثالث ، والثلثان من دية الثاني على عاقلتي الأول والثالث ، والثلثان من دية الثالث على عاقلتي الأول والثاني .

                                                                                                                                                                        والوجه الرابع حكاه المتولي : يجب للأول ربع الدية إن كان الحافر متعديا ، وللثاني الثلث ، وللثالث النصف للقصة المروية من قضاء علي رضي الله عنه بهذا وإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ؛ لكنه حديث ضعيف وجميع ما ذكرناه إذا وقع الثلاثة أو الأربعة بعضهم فوق بعض ؛ أما إذا كانت البئر واسعة وجذب بعضهم بعضا لكن وقع كل واحد في ناحية ؛ فدية كل مجذوب على عاقلة جاذبه ودية الأول على عاقلة الحافر إن كان متعديا . ومن وجبت في هذه الصور دية بعضهم أو بعضها على عاقلته ؛ لزمه الكفارة في ماله . ويقع النظر في أنها هل تتجزأ ؟ ومن أهدر دمه أو شيء منه لفعله ؛ ففي وجوب الكفارة عليه الخلاف في أن قاتل نفسه هل عليه كفارة ؟

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية