[ ص: 25 ] المسألة الرابعة  
اتفق القائلون بحصول العلم عن الخبر المتواتر على شروط ، واختلفوا في شروط .  
فأما المتفق عليه ، فمنها  ما يرجع إلى المخبرين   ، ومنها  ما يرجع إلى المستمعين      .  
فأما ما يرجع إلى المخبرين ، فأربعة شروط :  
الأول :  أن يكونوا قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب      .  
الثاني :  أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين      .  
الثالث :  أن يكون علمهم مستندا إلى الحس ، لا إلى دليل العقل      .  
الرابع :  أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط   ؛ لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه ، فكانت هذه الشروط معتبرة فيه .  
وأما ما يرجع إلى المستمعين ، فأن  يكون المستمع متأهلا لقبول العلم بما أخبر به ، غير عالم به قبل ذلك   وإلا كان فيه تحصيل الحاصل .  
غير أن من زعم أن حصول العلم بخبر التواتر نظري ؛ شرط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر .  
ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور ، لأن العلم عنده حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى ، فإن خلق العلم له علم أن الخبر مشتمل على هذه الشروط ، وإن لم يخلق له العلم علم اختلال هذه الشروط أو بعضها ، فضابط العلم بتكامل هذه الشروط حصول العلم بخبر التواتر عنده ، لا أن ضابط حصول العلم بخبر التواتر سابقة  [1] حصول العلم بهذه الشروط .  
ثم اختلف هؤلاء في  أقل عدد يحصل معه العلم      .  
فقال بعضهم : هو خمسة ؛ لأن ما دون ذلك ، كالأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين بالإجماع لتحصيل غلبة الظن ، ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة ، لما كان كذلك .  
وقد قطع  القاضي أبو بكر  بأن الأربعة عدد ناقص ، وتشكك في الخمسة .  
 [ ص: 26 ] ومنهم من قال : أقل ذلك اثنا عشر ، بعدد النقباء من بني إسرائيل ، على ما قال تعالى : (  وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا      ) وإنما خصهم بذلك العدد لحصول العلم بخبرهم .  
ومنهم من قال : أقله عشرون تمسكا بقوله تعالى : (  إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين      ) وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به .  
ومنهم من قال : أقل ذلك أربعون أخذا من عدد أهل الجمعة .  
ومنهم من قال : أقلهم سبعون ، تمسكا بقوله تعالى : (  واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا      ) وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به .  
ومنهم من قال : أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر ، نظرا إلى عدد أهل بدر ، إنما خصوا بذلك ليعلم ما يخبرون به للمشركين .  
ومنهم من قال : أقل عدد يحصل به العلم معلوم لله تعالى ، غير معلوم لنا ، وهذا هو المختار .  
وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد الذي حصل علمنا بوجود مكة ، وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده .  
ولو كلفنا أنفسنا معرفة ذلك عند توارد المخبرين بأمر من الأمور بترقب الحالة التي يكمل علمنا فيها بعد تزايد ظننا بخبر واحد بعد واحد لم نجد إليه سبيلا عادة ، كما لم نجد من أنفسنا العلم بالحالة التي يحصل فيها كمال عقولنا بعد نقصها ، بالتدريج الخفي ، لقصور القوة البشرية عن الوقوف على ذلك ، بل يحصل لنا العلم بخبر التواتر ، وإن كنا لا نقف على أقل عدد أفاده كما نعلم حصول الشبع بأكل الخبز ، والري بشرب الماء ، وإن كنا لا نقف على المقدار الذي حصل به الشبع والري .  
وما قيل من الأقاويل في  ضبط عدد التواتر   ، فهي مع اختلافها وتعارضها وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة ، فإنه ما من عدد يفرض حصول العلم به لقوم ، إلا وقد يمكن فرض خبرهم بعينه غير مفيد للعلم ، بالنظر إلى آخرين ، بل ولو أخبروا بأعيانهم بواقعة أخرى لم يحصل بها العلم لمن حصل له العلم بخبرهم الأول ، ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف ، وإنما وقع الاختلاف بسبب الاختلاف في القرائن المقترنة بالخبر ، وقوة سماع المستمع وفهمه ، وإدراكه للقرائن .  
 [ ص: 27 ] وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من أقوال المخبرين ، لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص ، وعلى هذا فما من عدد يفرض كان أربعة أو ما زاد إلا ويمكن أن يحصل به العلم ، ويمكن أن لا يحصل ، ويختلف ذلك باختلاف القرائن ، وما ذكر في كل صورة من أن تعيين ذلك العدد فيها إنما كان لحصول العلم بخبرهم ، تحكم لا دليل عليه ، بل أمكن أن يكون لأغراض أخر غير ذلك ، أو أن ذلك واقع بحكم الاتفاق .  
وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه ، وإنما المرجع فيه إلى الوجدان ، هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها .  
وأما  الشروط المختلف فيها   فستة :  
الأول : ذهب قوم إلى أن  شرط عدد التواتر أن لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد   ، ومذهب الباقين خلافه ، وهو الحق .  
وذلك لأنه قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد ، بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت ، وحادثة حدثت ، مع أنهم محصورون .  
الثاني : ذهب قوم إلى اشتراط  اختلاف أنساب المخبرين وأوطانهم وأديانهم   ، وهو فاسد ، لأنا لو قدرنا أهل بلد اتفقت أديانهم وأنسابهم ، وأخبروا بقضية شاهدوها ، لم يمتنع حصول العلم بخبرهم .  
الثالث : ذهب بعضهم إلى أن  شرط المخبرين أن يكونوا مسلمين عدولا   ؛ لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف ، والإسلام والعدالة ضابط الصدق والتحقيق في القول ؛ ولهذه العلة اختص المسلمون بدلالة إجماعهم على القطع ، ولأنه لو وقع العلم بتواتر خبر الكفار لوقع العلم بما أخبر به  النصارى   مع كثرة عددهم عن قتل المسيح وصلبه ، وما نقلوه عنه من كلمة التثليث .  
وهو باطل ، فإن نجد من أنفسنا العلم بأخبار العدد الكثير ، وإن كانوا كفارا كما لو أخبر أهل  قسطنطينية   بقتل ملكهم .  
وليس ذلك إلا لأن الكثرة مانعة من التواطؤ على الكذب ، وإن لم يكن ذلك ممتنعا فيما كان دون تلك الكثرة .  
 [ ص: 28 ] وأما الإجماع فإنما اختص علماء الإسلام بالاحتجاج به للأدلة السمعية ، دون الأدلة العقلية ، كما سبق بخلاف التواتر .  
وأما أنه لم يحصل لنا العلم بما أخبر به  النصارى   من قتل المسيح وصلبه وكلمة التثليث ، فيجب أن يكون ذلك محالا على عدم  [2] شرط من شروط التواتر ، وهو إما اختلال استواء طرفي الخبر ووسطه فيما ذكرناه من الشروط قبل ، أو لأنهم ما سمعوا كلمة التثليث صريحا ، بل سمعوا كلمة موهمة لذلك  [3] فنقلوا التثليث ، ويجب اعتقاد ذلك نفيا للكفر عن المسيح ، على ما قال تعالى : (  لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة      ) أو لأن المسيح شبه لهم ، فنقلوا قتله وصلبه ، ولا بعد في ذلك ، وإن كان الغلط فيه غير معتاد إذا وقع في زمان خرق العوائد ، وهو زمان النبوة ، وإن كان بعيدا في غير زمانه . ويجب اعتقاد ذلك عملا بقوله تعالى : (  وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم      ) .  
فإن قيل : فخرق العوائد جائز في غير زمان النبوة بكرامات الأولياء ، فليجز في كل ما أخبر به أهل ذلك العصر عن المحسات ووقوع الغلط فيه .  
قلنا : إن حصل لنا العلم بخبرهم ، علمنا استحالة الغلط عليهم ، وإن لم يحصل لنا العلم به ، علمنا أنه قد اختل شرط من شرائط التواتر ، وإن لم يكن ذلك الشرط معينا عندنا  [4]    .  
الرابع : ذهب قوم إلى أن شرطه  أن لا يكونوا محمولين على أخبارهم بالسيف   ، وهو باطل ، فإنهم إن حملوا على الصدق لم يمتنع حصول العلم بقولهم ، كما لو لم يحملوا عليه .  
ولهذا فإنه لو حمل الملك أهل مدينة عظيمة على الإخبار عن أمر محس ، وجدنا أنفسنا عالمة بخبرهم حسب علمنا بخبرهم من غير حمل ، وإن حملوا على الكذب ، فيمتنع حصول العلم بخبرهم ، لفوات شرط ، وهو إخبارهم عن معلوم محس .  
 [ ص: 29 ] الخامس :  شرطت  الشيعة   وابن الراوندي  [5] وجود المعصوم في خبر التواتر   ، حتى لا يتفقوا على الكذب ، و هو باطل أيضا ، لما بيناه من أنه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار على الإخبار عن قتل ملكهم أو أخذ مدينة ، فإن العلم يحصل بخبرهم ، مع كونهم كفارا فضلا عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم .  
ثم لو كان كذلك ، فالعلم يكون حاصلا بقول الإمام المعصوم بالنسبة إلى من سمعه لا بخبر التواتر .  
السادس :  شرطت  اليهود   في خبر التواتر أن يكون مشتملا على أخبار أهل الذلة والمسكنة   ؛ لأنه إذا لم يكن فيهم مثل هؤلاء ، فلا يؤمن تواطؤهم على الكذب لغرض من الأغراض . بخلاف ما إذا كانوا أهل ذلة ومسكنة ، فإن خوف مؤاخذتهم بالكذب يمنعهم من الكذب .  
ولو صح لهم هذا الشرط ، لثبت غرضهم من إبطال العلم بخبر التواتر بمعجزات  عيسى   ، ونبينا عليه السلام ، حيث إنهم لم يدخلوا في الأخبار بها ، وهم أهل الذلة والمسكنة . لكنه باطل بما نجده من أنفسنا من العلم بأخبار الأكابر والشرفاء العظماء إذا أخبروا بأمر محس ، وكانوا خلقا كثيرا . بل ربما كان حصول العلم من خبرهم أسرع من حصول العلم بخبر أهل المسكنة والذلة لترفع هؤلاء عن رذيلة الكذب لشرفهم وقلة مبالاة هؤلاء به لخستهم .  
وبالجملة لا يمتنع أن يكون شيء من هذه الشروط إذا تحقق كان حصول العلم بخبر التواتر معه أسرع من غيره .  
أما أن يكون ذلك شرطا ينتفي العلم بخبر التواتر عند انتفائه ؛ فلا .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					