الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ومنها ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد بالدعاء إلى الإسلام ، وتبليغ الأخبار والأحكام ، وفصل الخصومات ، وقبض الزكوات ونحو ذلك ، مع علمنا بتكليف المبعوث إليه بالطاعة والانقياد لقبول قول المبعوث إليهم ، والعمل بمقتضى ما يقول مع كون المنفذ من الآحاد ، ولو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان كذلك .

          [ ص: 63 ] ولقائل أن يقول : وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام ، فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها [1] وذلك محل النزاع .

          سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار الدالة على الأحكام الشرعية وتعريفهم إياها ، ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على كون خبر الواحد في ذلك حجة ، بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم للمبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر غير ذلك الواحد إليه [2] .

          ومع هذه الاحتمالات ، فلا يثبت كون خبر الواحد حجة فيما نحن فيه .

          وقد أورد على هذه الحجة سؤالان آخران لا وجه لهما :

          الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار ، كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى وتعريف الرسالة .

          فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية ، لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع [3] .

          الثاني : أن من الجائز أن يكون تنفيذ الآحاد بالإخبار عن أحكام شرعية كانت معلومة للمبعوث لهم قبل إرسال ذلك الواحد بها ، كما أنهم علموا وجوب العمل بخبر الواحد ، فهل إرسال ذلك الواحد إليهم على أصلكم .

          [ ص: 64 ] والجواب عن الأول أن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول ، لكونه خبر واحد ، بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية ، ويعرفهم من الدلائل اليقينية التي تشهد بصحتها عقولهم [4] ولا كذلك فيما يخبر به من الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية .

          وعن الثاني أنهم لو كانوا عالمين بالأحكام الشرعية التي دل عليها خبر الواحد ، لما احتيج إلى إرساله لتعريفهم لما قد عرفوه ، لما فيه من تحصيل الحاصل ، كيف وإن تعريف المعلوم بالخبر المظنون محال ، وهذا بخلاف ما إذا علم كون خبر الواحد مما يجب العمل به في الجملة ، فإن تنفيذ الواحد لا يعرف وجوب العمل بقوله بل إنما يعرف المخبر به على ما هو عليه ، وذلك لم يكن معروفا قبل خبره ، فكان تنفيذه لتعريف ذلك مفيدا .

          والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة ، ويدل على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والحصر ، المتفقة على العمل بخبر الواحد ، ووجوب العمل به .

          فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة ، أن النبي أطعمها السدس ، فجعل لها السدس .

          ومن ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وعمل أيضا بخبر حمل ابن مالك في الجنين ، وهو قوله : كنت بين جاريتين لي ( يعني ضرتين ) فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنينا ميتا ، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة ، فقال عمر : لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا .

          وروي عنه أنه قال : كدنا نقضي فيه برأينا .

          وأيضا فإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها ، فأخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه .

          [ ص: 65 ] وأيضا فإنه كان يرى في الأصابع نصف الدية ، ويفاضل بينها فيجعل في الخنصر ستة ، وفي البنصر تسعة ، وفي الوسطى والسبابة عشرة ، وفي الإبهام خمسة عشرة ، ثم رجع إلى خبر عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرة .

          ومن ذلك عمل عثمان وعلي رضي الله عنهما بخبر فريعة بنت مالك في اعتداد المتوفى عنها زوجها في منزل زوجها ، وهو أنها قالت : جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة ، فقال صلى الله عليه وسلم امكثي حتى تنقضي عدتك .

          ومن ذلك ما اشتهر من عمل علي عليه السلام بخبر الواحد ، وقوله : كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته [5] .

          ومن ذلك عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد ، بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة .

          ومن ذلك عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع .

          ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك أنه قال : كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ التمر إذ أتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، قال : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت .

          ومن ذلك عمل أهل قباء في التحول من القبلة بخبر الواحد أن القبلة قد نسخت ، فالتفتوا إلى الكعبة بخبره .

          ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه بلغه عن رجل أنه قال : إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله .

          أخبرني أبي بن كعب قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر ، فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل وسماه عدو الله .

          [ ص: 66 ] ومن ذلك ما روي أنه لما باع معاوية شيئا من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك ، فقال له معاوية : لا أرى بذلك بأسا ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أبدا .

          ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه أبو بكر الصديق من قوله : " الأئمة من قريش " ، ومن قوله : " الأنبياء يدفنون حيث يموتون " ، ومن قوله : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " .

          وعملهم بأجمعهم في الرجوع عن سقوط فرض الغسل بالتقاء الختانين بقول عائشة : فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا .

          وعمل جميعهم بخبر رافع بن خديج في المخابرة ، وذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال : كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا [6] إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عددا ، وكان ذلك شائعا ذائعا فيما بينهم من غير نكير .

          وعلى هذا جرت سنة التابعين ، كعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجبير بن مطعم ، ونافع بن جبير ، وخارجة بن زيد ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، وعطاء بن يسار ، وطاوس وعطاء بن مجاهد [7] وسعيد بن المسيب وفقهاء الحرمين والمصرين ( يعني الكوفة والبصرة ) إلى حين ظهور المخالفين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية