الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الرابعة

          الأمر المعلق بشرط كقوله : ( إذا زالت الشمس فصلوا ) [1] أو صفة كقوله : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا ؟

          فمن قال : إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ، ومن قال : إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار اختلفوا هاهنا : فمنهم من أوجبه ، ومنهم من نفاه .

          وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع ، فنقول : ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة ، إما أن يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا ، أو لا يكون كذلك ، بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه ، كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم في الزنا ، فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره نظرا إلى تكرر العلة ، ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة ، مهما وجدت ، فالتكرار مستند إلى تكرار العلة ، لا إلى الأمر وإن كان الثاني ، فهو محل الخلاف ، والمختار أنه لا تكرار .

          وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية ، لا بد من التنبيه عليها ، وعلى ما فيها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار ، الحجة الأولى أنهم قالوا أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي تكرار المخبر عنه ، كما لو قال : " إن جاء زيد جاء عمرو " فإنه لا يلزم تكرر مجيء عمرو في تكرر مجيء زيد ، فكذلك في الأمر ، وهي باطلة ، فإن حاصلها يرجع إلى القياس في اللغة ، وقد أبطلناه [2] .

          [ ص: 162 ] الثانية أنه لو قال لزوجته " إذا دخلت الدار فأنت طالق " فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول ، فكذلك في قوله " إذا زالت الشمس فصلوا " وهو أيضا من جنس ما تقدم ، لما فيه من قياس الأمر على إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر .

          الثالثة : أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على تعليق شيء بشيء ، وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة ، أو في صورة واحدة ، والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعرا بالأخص .

          وحاصل هذه الحجة أيضا يرجع إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء التكرار بتكرر الشرط أو الصفة ، وهو عين محل النزاع .

          وإنما الواجب أن يقال إنه مشعر بالأعم ، والأصل عدم إشعاره بالأخص .

          والمعتمد في ذلك ، أن يقال لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع الأمرين ، لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ، ولا بالثاني لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده ، بل إنما تأثيره في انتفاء المشروط عند انتفائه ، وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " إنما كان لضرورة وجود الموجب ، وهو قوله " أنت طالق " لا لنفس دخول الدار ، وإلا كان دخول الدار موجبا للطلاق مطلقا ، وهو محال ، ولا جائز أن يقال بالثالث ، لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده " إذا دخلت السوق فاشتر لحما " أنه لا يقتضي التكرار ، وذلك إما أن يكون مع تحقق الموجب للتكرار ، أو لا مع تحققه : لا جائز أن يقال بالأول .

          وإلا فانتفاء التكرار إما لمعارض ، أو لا لمعارض ، والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل الدليل عن أعماله ، وهو خلاف الأصل ، والثاني أيضا باطل لما فيه من مخالفة الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني ، وهو المطلوب .

          فإن قيل ما ذكرتموه معارض من وجوه .

          الأول : أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط وصفات وهي متكررة بتكررها ، كقوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) الآية ، وقوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( الزانية والزاني ) الآية ، ولو لم يكن ذلك مقتضيا للتكرار لما كان متكررا .

          [ ص: 163 ] الثاني : أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعا ، والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة ، فكان اقتضاؤه للتكرار أولى .

          الثالث : أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ، ولا اختصاص له بالموجود الأول منها ، دون ما بعده ، وعند ذلك ، فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع وجود الشرط ثانيا وثالثا انتفاؤه مع وجود الشرط الأول ، أو من وجوده مع الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية . والأول خلاف الإجماع ، والثاني هو المطلوب .

          الرابع : أنه لو لم يكن الأمر مقتضيا لتعليق الحكم بجميع الشروط ، بل بالأول منها فيلزم ، أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني ، دون الأول ، قضاء ، وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع .

          الخامس : أن النهي المعلق بالشرط مفيد للتكرار ، كما إذا قال " إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهما " والأمر ضد النهي ، فكان مشاركا له في حكمه ، ضرورة اشتراكهما في الطلب والاقتضاء .

          السادس : أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور به بدوامه ، كما لو قال ( إذا وجد شهر رمضان فصمه ) فإن الصوم يكون دائما بدوام الشهر ، وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائما .

          والجواب عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض للتكرار ، فحيث قضي بالتكرار ، إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في نفس الأمر ، كما في الزنا والسرقة ، أو لا يكون علة له فإن كان الأول ، فالتكرار إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ، ولا كلام فيه .

          وإن كان الثاني ، فيجب اعتقاد كونه متكررا لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة ، لما ذكرناه من عدم اقتضائه ، كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط ، فقد لا يتكرر كالأمر بالحج ، فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها .

          [ ص: 164 ] وعن الثاني أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم ، تكرره بتكرر الشرط ، مع أنه غير موجب للحكم ، كما تقرر .

          وعن الثالث أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور ، وليس كذلك عندنا بل الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه ، إذا علم تجدد الشرط ، وغلب على الظن بقاء المأمور ، ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض .

          وأما إن لم يغلب على الظن تجدد الشرط ، ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني ، فقد تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول ، لعدم تحقق ما سواه .

          وعلى هذا ، فقد خرج الجواب عن الرابع أيضا .

          وعن الخامس : أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة ، وهو باطل بما سبق .

          كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط ، بل ما اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول ، سواء تجدد الشرط ثانيا ، أو لم يتجدد .

          وعن السادس : أن الشرط المستشهد به ، وإن كان له دوام في زمان معين والحكم موجود معه ، فهو واحد ، والمشروط به غير متكرر بتكرره .

          وعند ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر ، لزوم التكرر بتكرر الشرط في محل النزاع .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية