الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية

          إذا ثبت أن صيغة ( افعل ) ظاهرة في الطلب والاقتضاء ، فالفعل المطلوب لا بد وأن يكون فعله راجحا على تركه : فإن كان ممتنع الترك . كان واجبا ، وإن لم يكن ممتنع الترك ، فإما أن يكون ترجحه لمصلحة أخروية ، فهو المندوب ، وإما لمصلحة دنيوية ، فهو الإرشاد .

          وقد اختلف الأصوليون ، فمنهم من قال : إنه مشترك بين الكل [1] وهو مذهب الشيعة ، ومنهم من قال إنه لا دلالة له على الوجوب والندب بخصوصه ، وإنما هو حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو ترجيح الفعل على الترك [2]

          ومنهم من قال : إنه حقيقة في الوجوب ، مجاز فيما عداه ، وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ، والفقهاء وجماعة من المتكلمين ، كأبي الحسين البصري ، وهو قول الجباشي في أحد قوليه .

          ومنهم من قال : إنه حقيقة من الندب ، وهو مذهب أبي هاشم وكثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم ، وجماعة من الفقهاء وهو أيضا منقول عن الشافعي رحمه الله تعالى .

          [ ص: 145 ] ومنهم من توقف ، وهو مذهب الأشعري رحمه الله ، ومن تابعه من أصحابه ، كالقاضي أبي بكر [3] والغزالي وغيرهما وهو الأصح .

          وذلك لأن وضعه مشتركا [4] أو حقيقة في البعض ، مجازا في البعض ، إما أن يكون مدركه عقليا أو نقليا .

          الأول : محال ، إذ العقول لا مدخل لها في المنقول ، لا ضرورة ولا نظرا ، والثاني : فإما أن يكون قطعيا أو ظنيا ، والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه ، والظني إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة ، مما يقنع فيه بالظن ، وهو غير مسلم [5] فلم يبق غير التوقف .

          فإن قيل : ما ذكرتموه مبني على أن مدار مثل هذه المسألة على القطع ، وهو غير مسلم ولا في شيء من اللغات ، وإن سلمنا ذلك ، لكن ما المانع أن يكون المدرك لا عقليا محضا ولا نقليا محضا ، بل هو مركب منهما ، كما يأتي تحقيقه ، وإن سلمنا الحصر فيما ذكرتموه ، غير أنه لازم عليكم في القول بالوقف أيضا ، فإن العقل لا يقتضيه ، والنقل القطعي غير متحقق فيه ، والظن إنما يكتفى به أن لو كانت المسألة ظنية ، فما هو جوابكم عنه في القول بالوقف يكون جوابا لخصومكم فيما ذهبوا إليه على اختلاف مذاهبهم .

          قلت : أما إنكار القطع في اللغات على الإطلاق يفضي إلى إنكار القطع في جميع الأحكام الشرعية ؛ لأن مبناها على الخطاب بالألفاظ اللغوية ومعقولها ، وذلك كفر صراح ، والقول بأن ما ذكرتموه مبني على أن مدار ما نحن فيه على القطع .

          قلنا : نحن في هذه المسألة غير متعرضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقفون ، فمن رام إثبات اللغة فيما نحن فيه بطريق ظني أمكن أن يقال له متى يكتفى بذلك فيما نحن فيه ، أإذا كان شرط إثباته القطع أم لا ؟ ولا بد عند توجه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع أو المسلم ، وكل واحد منهما متعذر لما سبق : [ ص: 146 ] قولهم : ما المانع من كونه مركبا من العقل والنقل : قلنا : لأن ما ذكرناه من التقسيم في النقلي ، ثابت هاهنا كان مستقلا أو غير مستقل ، والقطع لا سبيل إليه وإن كان ظنيا ، فالمركب منه ومن العقلي يكون ظنيا ، سواء كان العقلي ظنيا أو قطعيا .

          قولهم : ما ذكرتموه لازم عليكم في الوقف ، قلنا : ليس كذلك ; لأن الواقف غير حاكم ، بل هو ساكت عن الحكم [6] والساكت عن الحكم ، لا يفتقر إلى دليل ، فلا يكون ما ذكروه لازما علينا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية