الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 270 ] المسألة العشرون

          اختلفوا في دخول العبد تحت التكاليف بالألفاظ العامة المطقلة كلفظ الناس والمؤمنين ، فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون إلا بقرينة ودليل يخصه .

          ومنهم من قال بدخوله في العمومات المثبتة لحقوق الله دون حقوق الآدميين ، وهو منسوب إلى أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة .

          والمختار إنما هو الدخول ، وذلك ؛ لأن الخطاب إذا كان بلفظ الناس أو المؤمنين فهو لكل من هو من الناس والمؤمنين ، والعبد من الناس والمؤمنين حقيقة فكان داخلا في عمومات الخطاب بوضعه لغة إلا أن يدل دليل على إخراجه منه [1] .

          فإن قيل : العبد من حيث هو عبد مال لسيده ، ولذلك يتمكن من التصرف فيه حسب تصرفه في سائر الأموال ، وإذا كان مالا كان بمنزلة البهائم ، فلا يكون داخلا تحت عموم خطاب الشارع .

          سلمنا أنه ليس كالبهائم إلا أن أفعاله التي يتعلق بها التكليف ويحصل بها الامتثال مملوكة لسيده ، ويجب صرفها إلى منافعه بخطاب الشرع ، فلا يكون الخطاب متعلقا بصرفها إلى غير منافع السيد لما فيه من التناقض .

          سلمنا عدم التناقض غير أن الإجماع منعقد على إخراج العبد عن مطلق الخطاب العام بالجهاد والحج والعمرة والجمعة والعمومات الواردة بصحة التبرع والإقرار بالحقوق البدنية والمالية ، ولو كان داخلا تحت عموم الخطاب بمطلقه لكان خروجه عنها في هذه الصور على خلاف الدليل .

          [ ص: 271 ] سلمنا إمكان دخوله تحت مطلق الخطاب لغة إلا أن الرق مقتض لإخراجه عن عمومات الخطاب بطريق التخصيص ، وبيانه أنه صالح لذلك من حيث إنه مكلف بشغل جميع أوقاته بخدمة سيده بخطاب الشرع ، وحق السيد مقدم على حق الله - تعالى - لوجهين : الأول : أن السيد متمكن من منع العبد من التطوع بالنوافل مع أنها حق لله ، تعالى ، ولولا أن حق السيد مرجح لما كان كذلك .

          الثاني : أن حق الله - تعالى - مبني على المسامحة والمساهلة ؛ لأنه لا يتضرر بفوات حقوقه ولا ينتفع بحصولها ، وحق الآدمي مبني على الشح والمضايقة ؛ لأنه ينتفع بحصوله ويتضرر بفواته .

          والجواب عن السؤال الأول أن كون العبد مالا مملوكا لا يخرجه عن جنس المكلفين إلى جنس البهائم ، وإلا لما توجه نحو التكليف بالخطاب الخاص بالصلاة والصوم ونحوه ، وهو خلاف الإجماع .

          وعن السؤال الثاني : لا نسلم أن السيد مالك لصرف منافع العبد إليه في جميع الأوقات حتى في وقت تضايق وقت العبادة المأمور بها ، بل في غيره .

          وعلى هذا فلا تناقض .

          وعن الثالث : أن ذلك لا يدل على إخراج العبد عن كون العمومات متناولة له لغة لما بيناه ، بل غايته أنه خص بدليل ، والتخصيص غير مانع من العموم لغة .

          ولا يخفى أن القول بالتخصيص أولى من القول برفع العموم لغة مع تحققه ، وصار كما في تخصيص المريض والحائض والمسافر عن العمومات الواردة بالصوم والصلاة والجمعة والجهاد .

          وعن الرابع : بمنع تعلق حق السيد بمنافعه المصروفة إلى العبادات المأمور بها عند ضيق أوقاتها كما سبق ، والرق وإن اقتضى ذلك لمناسبته واعتباره ، فلا يقع في مقابلة الدلالة النصية على العبادة في ذلك الوقت ؛ لقوة دلالة النصوص على دلالة ما الحجة به مستندة إليها .

          والنصوص وإن كانت متناولة للعبد بعمومها إلا أنها متناولة للعبادة في وقتها المعين بخصوصها .

          والرق وإن كان مقتضيا لحق السيد [ ص: 272 ] بخصوصه إلا أن اقتضاءه لذلك الحق في وقت العبادة بعمومه ، فيتقابلان ، ويسلم الترجيح بالتنصيص كما سبق .

          قولهم : حق الآدمي مرجح على حق الله - تعالى - لا نسلم ذلك مطلقا .

          ولهذا فإن حق الله - تعالى - مرجح على حق السيد فيما وجب على العبد بالخطاب الخاص به إجماعا ، وبه يندفع ما ذكروه من الترجيح الأول .

          قولهم في الترجيح الثاني : إن السيد يتمكن من منع العبد من التنفل .

          قلنا : وإن أوجب ذلك ترجح جانب حق السيد على حقوق الله - تعالى - في النوافل فغير موجب لترجحه عليه في الفرائض [2] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية