الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 227 ] المسألة الرابعة

          اختلف القائلون بالعموم في العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو مجاز ؟ على ثمانية مذاهب :

          فمنهم من قال : إنه يبقى حقيقة مطلقا على أي وجه كان المخصص ، وهو مذهب الحنابلة وكثير من أصحابنا .

          ومنهم من قال : إنه يبقى مجازا كيفما كان المخصص ، وهو مذهب كثير من أصحابنا ، وإليه ميل الغزالي وكثير من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة كعيسى بن أبان وغيره .

          ومن أصحاب أبي حنيفة من قال : إن كان الباقي جمعا فهو حقيقة وإلا فلا .

          وهو اختيار أبي بكر الرازي .

          ومنهم من قال : إن خص بدليل لفظي فهو حقيقة كيفما كان المخصص متصلا أو منفصلا وإلا فهو مجاز .

          ومنهم من قال : إن خص بدليل متصل من شرط كقوله : من دخل داري وأكرمني أكرمته ، أو استثناء كقوله : من دخل داري أكرمته سوى بني تميم فحقيقة وإلا فمجاز ، وهو اختيار القاضي أبي بكر [1] .

          وقال القاضي عبد الجبار من المعتزلة : إن كان مخصصه شرطا كما سبق تمثيله أو تقييدا بصفة كقوله : من دخل داري عالما أكرمته فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء ، وقال أبو الحسين البصري : إن كانت القرينة المخصصة مستقلة بنفسها وسواء كانت عقلية كالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب في العبادات ، أو لفظية كقول المتكلم بالعموم : أردت به البعض الفلاني فهو مجاز وإلا فهو حقيقة ، وسواء كانت القرينة شرطا أو صفة مقيدة أو استثناء .

          ومن الناس من قال : إنه حقيقة في تناول اللفظ له ، مجاز في الاقتصار عليه .

          [ ص: 228 ] والمختار تفريعا على القول بالعموم أنه يكون مجازا في المستبقي واحدا كان أو جماعة ، وسواء كان المخصص متصلا أو منفصلا عقليا أو لفظيا باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة .

          ودليل ذلك أنه إذا كان اللفظ حقيقة في الاستغراق والهيئة الاجتماعية من كل الجنس ، فصرفه إلى البعض بالقرينة كيفما كانت القرينة .

          أما أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، لا جائز أن يقال بكونه حقيقة فيه ، وإلا كان اللفظ مشتركا بينه وبين الاستغراق ، ضرورة اختلاف معنييهما بالبعضية والكلية ، وعدم اشتراكهما في معنى جامع يكون مدلولا للفظ ، [2] والمشترك لا يكون ظاهرا بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض [3] ، وهو خلاف مذهب القائلين بالعموم فلم يبق إلا أن يكون مجازا .

          فإن قيل : ما المانع أن يكون حقيقة فيهما باعتبار اشتراكهما في الجنسية على وجه لا يكون مشتركا [4] ولا مجازا في أحدهما ؟ والذي يدل على كونه حقيقة في البعض المستبقي أن اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يكون مؤثرا فيه ، سلمنا أنه ليس حقيقة في الجنس المشترك ، ولكن ما المانع من كون اللفظ بمطلقه حقيقة في الاستغراق ؟ ومع القرينة يكون حقيقة في البعض ، سلمنا امتناع بقائه حقيقة فيه ، ولكن متى إذا كان دليل التخصيص لفظيا متصلا أو منفصلا ، الأول ممنوع والثاني مسلم .

          وذلك لأنه إذا كان الدليل المخصص لفظيا متصلا ، وسواء كان شرطا أو تقييدا بصفة أو استثناء ، فإن الكلام يصير بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر مستقلا موضوعا للبعض ، فإنه إذا قال : من دخل داري أكرمته كان له معنى ، فإذا زاد شرطا أو صفة أو استثناء كقوله : من دخل داري وأكرمني أكرمته ، ومن دخل داري عالما أكرمته ، أو من دخل داري أكرمته [ ص: 229 ] إلا بني تميم تغير ذلك المعنى الأول ، وصار معنى الشرط الداخل المكرم ، ومعنى الصفة الداخل العالم ، ومعنى الاستثناء الداخل ممن ليس من بني تميم ، فكان اللفظ والمعنى مختلفا ، وكل واحد من اللفظين حقيقة في معناه ، وصار هذا بمنزلة قول القائل : مسلم فإن له معنى ، فإذا زاد فيه الألف واللام فقال المسلم ، أو زاد فيه الواو والنون فقال مسلمون ، فإن اللفظ بإلحاق الزيادة فيه صار دالا على معنى زائد بجهة الحقيقة ، لا بجهة التجوز ، فكذلك فيما نحن فيه .

          وعلى هذا نقول إن قوله تعالى : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) إن مجموع هذا القول دل على المستبقي بجهة الحقيقة ، وهو قائم مقام قوله : فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما ، هذا كله فيما إذا كان الاستثناء والمستثنى في كلام متكلم واحد ، وأما لو قال الله تعالى ( اقتلوا المشركين ) فقال الرسول عقيبه : إلا زيدا فهذا مما اختلف فيه أنه كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا أم لا .

          فمن قال بكونه متصلا نظر إلى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون في تشريع الأحكام بغير الوحي ، فكان في البيان كما لو كان ذلك بكلام الله تعالى .

          ومنهم من أجراه مجرى الدليل المنفصل دون المتصل ، ولهذا فإنه لو قال الباري تعالى : زيد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قام لا يكون خبرا صادرا من الله تعالى ، لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد ، ولعل هذا هو الأظهر .

          سلمنا أنه يكون مجازا في جميع الصور إلا في الشرط ، وذلك لأنه إذا قال : أكرم بني تميم إن دخلوا داري ، فإن الشرط لم يخرج شيئا مما تناوله اللفظ من أعيان الأشخاص ، بل هو باق بحاله .

          وإنما أخرج حالا من الأحوال ، وهي حالة عدم دخول الدار بخلاف الاستثناء وغيره فلا يكون مجازا .

          سلمنا التجوز مطلقا ، لكن متى إذا كان المستبقي منحصر ، أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم .

          [ ص: 230 ] والجواب عن السؤال الأول أن البعض ، وإن كان من جنس الكل إلا أن اللفظ العام حقيقة في استغراق الجنس من حيث هو كذلك ، لا في الجنس مطلقا ولهذا تعذر حمله على البعض ، وإن كان من الجنس إلا بقرينة باتفاق القائلين بالعموم ، ومعنى متحقق في المستبقي فلا يكون حقيقة فيه .

          قولهم : إن اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، قلنا بانفراده أو مع المخصص [5] الخارج ، الأول ممنوع والثاني مسلم .

          وعلى هذا فلا يلزم مع التخصيص أن يبقى حقيقة فيه ، كيف ويلزم عليه الواحد ؟ فإن اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص وبعد التخصيص ، فهو مجاز فيه بالاتفاق .

          وعن السؤال الثاني جوابان : الأول : أن ذلك مما يرفع جميع المجازات عن الكلام ، فإنه ما من مجاز إلا ويمكن أن يقال : إنه مع القرينة حقيقة في مدلوله ، وبدون القرينة حقيقة في غيره [6] .

          الثاني : أنه لو كان كما ذكروه لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة المخصصة له بالبعض استعمالا له في غير الحقيقة ، وصارفا له عن الحقيقة ، وهو خلاف إجماع القائلين بالعموم .

          وعن السؤال الثالث أن دلالة اللفظ عند اقترانه بالدليل اللفظي المتصل لا يخرج عن حقيقته وصورته بما اقترن به ، وإلا كان كل مقترن بشيء خارجا عن حقيقته .

          ويلزم من ذلك خروج الجسم عن حقيقته من حيث هو جسم عند اتصافه بالبياض أو السواد ، وكذلك في كل موصوف بصفة ، وهو محال .

          وإذا كان باقيا على حقيقته فمعناه لا يكون مختلفا ، بل غايته أن يصير مصروفا عن معناه بالقرينة المقترنة به ، وهو التجوز بعينه .

          وعلى هذا فألفاظ الآية المذكورة في قصة نوح الألف للألف والخمسون للخمسين ، وإلا للرفع ، ومعرفة ما بقي حاصلة بالحساب .

          وخرج عن هذا زيادة الألف واللام في المسلم ، والواو والنون في [ ص: 231 ] المسلمين ، فإنها لا معنى لها في نفسها دون المزيد عليه ، ولا سبيل إلى إهمالها .

          فلذلك كانت موجبة للتعيين في الوضع .

          فإن قيل : لو قال : لا إله ، فإنه بمطلقه يكون كفرا ، ولو اقترن به الاستثناء وهو قوله : إلا الله كان إيمانا ، وكذلك لو قال لزوجته : أنت طالق كان بمطلقه تنجيزا للطلاق ، ولو اقترن به الشرط وهو قوله إن دخلت الدار كان تعليقا مع أن الاستثناء والشرط له معنى ، ولولا تغير الدلالة والوضع لما كان كذلك .

          قلنا : لا نسلم التغيير في الوضع ، بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه في جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة كيف وإنه لو صح ما ذكروه لم يكن ذلك من باب تخصيص العموم الذي نحن فيه ؟

          وعن السؤال الرابع من وجهين : الأول : أنه مهما أخرج الشرط بعض الأحوال فيلزم منه إخراج بعض الأعيان ، وذلك أنه إذا قال : أكرم بني تميم إن دخلوا داري فقد أخرج من لم يدخل الدار ، الثاني : أنه وإن لم يخرج شيئا من الأعيان ، ولكن لا نسلم انحصار التجوز في إخراج الأعيان ، وما المانع من القول بالتجوز في إخراج بعض الأحوال مع عموم اللفظ بالنسبة إليها ؟

          وعن السؤال الخامس لا نسلم أن المستبقي وإن كان جمعا غير منحصر أنه يكون عاما إذا لم يكن مستغرقا للجنس ، وإن سلمنا عمومه ، غير أنه بعض مدلول اللفظ العام المخصص ، وإذا كان بعضا منه لزم أن يكون صرف اللفظ إليه مجازا لما ذكرناه من الدليل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية