الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 155 ] المسألة الثالثة

          اختلف الأصوليون في الأمر العري عن القرائن فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان ، وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ، ومحتمل للتكرار ، ومنهم من نفى احتمال التكرار ، وهو اختيار أبي الحسين البصري : وكثير من الأصوليين ، ومنهم من توقف في الزيادة ، ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات ، وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية .

          والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال ، وهو معلوم قطعا ، والتكرار محتمل ، فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه ، وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافيا .

          والدليل على ذلك أنه إذا قال له " صل أو صم " فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم ، وهو مصدر ( افعل ) والمصدر محتمل للاستغراق والعدد ، ولهذا يصح تفسيره به ، فإنه لو قال لزوجته " أنت طالق ثلاثا " وقع به لما كان تفسيرا للمصدر وهو الطلاق ، ولو اقتصر على قوله " أنت طالق " لم يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث ، فإذا قال " صل " فقد أمره بإيقاع المصدر ، وهو الصلاة ، والمصدر محتمل للعدد ، فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة العدد حمل عليه ، وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية .

          ولهذا فإنه لو أمر عبده أن يتصدق صدقة ، أو يشتري خبزا أو لحما ، فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة ، وشراء واحد ، ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ ، لعدم القرينة الصارفة إليه ، وإن كان اللفظ محتملا له ، وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد ، وعدم إرادته ، وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ، ولا ظهور ، إذ الفرض فيما إذا عدمت القرائن المشعرة به .

          فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقا وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضا .

          والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب الخصوم ، فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه .

          الأولى منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار ، فدل على إشعار الأمر به .

          [ ص: 156 ] الثانية ، أن قوله تعالى : ( واقتلوا المشركين ) يعم كل مشرك ، فقوله " صم وصل " ينبغي أن يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص .

          الثالثة : أن قوله ( صم ) كقوله ( لا تصم ) ومقتضى النهي الترك أبدا ، فوجب أن يكون الأمر مقتضيا للفعل أبدا لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب .

          الرابعة : أن الأمر اقتضى فعل الصوم ، واقتضى اعتقاد وجوبه ، والعزم عليه أبدا ، فكذلك الموجب الآخر .

          الخامسة : أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان ، فليس حمله على البعض أولى من البعض ، فوجب التعميم .

          السادسة : أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه ، لاستحالة الاستثناء من المرة الواحدة ، ولا تطرق النسخ إليه ; لأن ذلك يدل على البداء وهو محال على الله تعالى ، ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار .

          ولكان قول الآمر لغيره ( صل مرة واحدة ) غير مفيد ، وكان قوله ( صل مرارا ) تناقضا ، ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت ، محتاجا في فعله ثانيا إلى دليل ، وهو ممتنع .

          السابعة : أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف ، لأنه إن كان للتكرار ، فقد حصل المقصود ولا ضرر ، وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضرا .

          الثامنة : إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان ، وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به .

          التاسعة : قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم ، وذلك يقتضي وجوب التكرار .

          العاشرة : أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح ، وقال : " أعمدا فعلت هذه يا رسول الله ؟ فقال : نعم " ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) لما كان للسؤال معنى .

          الحادية عشرة : أنه إذا قال الرجل لغيره : أحسن عشرة فلان ، فإنه يفهم منه التكرار والدوام .

          [ ص: 157 ] وأما شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار ، فأولها : أن من قال لغيره " ادخل الدار " يعد ممتثلا بالدخول مرة واحدة ، كما أنه يصير ممتثلا لقوله " اضرب رجلا " بضرب رجل واحد .

          ولذلك ، فإنه لا يلام بترك التكرار ، بل يلام من لامه عليه .

          وثانيها : أنه لو قال القائل ( صام زيد ) صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر .

          وثالثها : أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن ، برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد ، وعد آتيا بما التزمه ، فكذلك في الالتزام بالأمر .

          ورابعها أنه لو قال الرجل لوكيله ( طلق زوجتي ) لم يملك أكثر من تطليقة واحدة .

          وخامسها : أنه لو كان الأمر للتكرار ، لكان قوله ( صل مرارا ) غير مفيد . وكان قوله ( صل مرة واحدة ) نقصا وليس كذلك .

          وسادسها : أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار : لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن الجمع بينهما ، إما تكليفا بما لا يطاق ، أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضا للأمر بالأخرى ، وهو ممتنع .

          وأما شبه القائلين بالوقف ، فأولها أن الأمر بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ، ولا في التكرار ، ولهذا فإنه يحسن أن يستفهم من الآمر عند قوله " اضرب " ويقال له " مرة واحدة أو مرارا " .

          ولو كان ظاهرا في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام .

          وثانيها : أنه لو كان ظاهرا في المرة الواحدة لكان قول الآمر " اضرب مرة واحدة " تكرارا " أو مرارا " تناقضا ، وكذلك لو كان ظاهرا في التكرار .

          والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر ، وإن كانت متكررة على التكرار ، لا يدل على استفادة ذلك من ظاهرها ، وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة ، كالحج ونحوه ، مستفادا من ظاهر الأمر ، ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولية وهو محال [1] .

          [ ص: 158 ] فإن قيل : اعتقاد الظهور في التكرار أولى ؛ لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول على المرة الواحدة ، وعند ذلك فلو جعلناه ظاهرا في المرة الواحدة ، لكان المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من جعله ظاهرا في التكرار عند حمله على المرة الواحدة .

          قلنا : هذا إنما يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين ، وليس كذلك بل الأمر عندنا إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل ، والمرة الواحدة من ضروراته ؛ لأن الأمر ظاهر فيها ، وكذلك في التكرار [2] فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة الظاهر في الآخر ، لعدم تحققه فيه .

          وعن الثانية : وإن سلمنا أن العموم في قوله تعالى : ( واقتلوا المشركين ) أنه يتناول كل مشرك ، فليس ذلك إلا لعموم اللفظ ، ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله " صم " بالنسبة إلى جميع الأزمان [3] بل لو قال " صم في جميع الأزمان " كان نظيرا لقوله " اقتلوا المشركين " .

          وعن الثالثة : لا نسلم أن النهي المطلق للدوام ، وإنما يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه ، كما في الأمر وإن سلمنا اقتضاءه للدوام ، لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات ، وقد أبطلناه .

          وإن سلمنا صحة ذلك ، غير أنا نفرق : وبيانه من وجهين : الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره بإيقاع مصدره ، وهو الضرب ، فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال : لم يعدم الضرب .

          [4] .

          الثاني : إن حمل الأمر على التكرار مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة ، وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقا .

          [ ص: 159 ] وعن الرابعة : أنها غير متجهة ، وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفادا من نفس الأمر ، وإنما هو من أحكام الإيمان ، فتركه يكون كفرا ، والكفر منهي عنه دائما ، ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائما في الأوامر المقيدة .

          وأما العزم ، فلا نسلم وجوبه ، ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم ، لا يجب على من حضره إنباهه ولو كان العزم واجبا في ذلك الوقت ، لوجب عليه ، كما لو ضاق وقت العبادة ، وهو نائم .

          وإن سلمنا وجوب العزم ، لكن لا نسلم وجوبه دائما ، بل هو تبع لوجوب المأمور به ، وإن سلمنا وجوبه دائما ، فلا نسلم كونه مستفادا من نفس الأمر ، ليلزم ما قيل ، بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة ، ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة .

          وعن الخامسة : أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان ، وإنما الزمان من ضرورات وقوع الفعل المأمور به ، ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم كالمكان .

          وعن السادسة : وهي قولهم لو كان ( الأمر ) للمرة الواحدة لما دخله النسخ ليس كذلك عندنا ، فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة ، جاز نسخه عندنا قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي .

          وإنما ذلك لازم على المعتزلة ، وأما دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ، ومن أوجبه على التراخي ، فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها .

          وأما حسن الاستفهام ، فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيدا ، فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة ، وبه يخرج الجواب عن قوله : " صل مرة واحدة " وقوله " صل مرارا " غير متناقض ، بل غايته دلالة الدليل على إرادة التكرار المحتمل .

          وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر ; لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك " الوقت " ، ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في ثاني الحال .

          [ ص: 160 ] وعن السابعة : ما سبق في الواجب والمندوب .

          وعن الثامنة : لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، وإن سلم ذلك ، ولكن اقتضاء النهي للأضداد بصفة الدوام ، فرع كون الأمر مقتضيا للفعل على الدوام ، وهو محل النزاع .

          وأما قوله : صلى الله عليه وسلم ( إذا أمرتكم بأمر ) الحديث ، إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأمورا به ، وليس كذلك .

          وأما حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر الصلاة ، بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك لإزاحة الإشكال ، بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم سهوا أو لا للتكرار إن كان فعله عمدا .

          كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ، ولو كان للتكرار لما أعرض عنه ، وله الترجيح [5] .

          وأما الأخيرة : فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن العشرة للأزمان ; لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم ، وذلك يستدعي استحقاق المأمور بإكرامه للإكرام ، وهو سبب الأمر ، فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام المسبب ، فكان الدوام مستفادا من هذه القرينة لا من مطلق الأمر .

          والجواب عن الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ، ولا يلزم منه امتناع احتماله له .

          ولهذا فإنه لو قال : ادخل الدار مرارا بطريق التفسير ، فإنه يصح ويلزم ولو عدم لما صح التفسير .

          وعن الثانية : أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح ، وبه دفع الشبهة الثالثة .

          وإذا قال لوكيله ( طلق زوجتي ) إنما لم يملك ما زاد على الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم لغة الاحتمال ; ولهذا لو قال ( طلقها ثلاثا ) على التفسير صح .

          وعن الخامسة ما سبق .

          [ ص: 161 ] وعن السادسة أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار ، إما أن لا يكون منافيا له أو يكون منافيا ، فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه ، وإن كان الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج ، فيكون ذلك قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ، ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة .

          وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية