( والمروءة تخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه ) ؛ لأن الأمور العرفية تختلف بذلك غالبا بخلاف العدالة فإنها ملكة راسخة في النفس لا تتغير بعروض مناف لها وهذه أحسن العبارات المختلفة في تعريف المروءة لكن المراد بخلق أمثاله المباحة غير المزرية به فلا نظر لخلق القلندرية في حلق اللحى ونحوها ( فالأكل في سوق والمشي ) فيه ( مكشوف الرأس ) أو البدن غير العورة أو كشف ذلك فيها وإن لم يمش ممن لا يليق به ذلك وإن كان الأكل ماشيا لتافه ما لم يكن خاليا فيما يظهر يسقطها لخبر الطبراني بسند لين { الأكل في السوق دناءة } ومثله الشرب إلا إن صدق جوعه أو عطشه قال الأذرعي : أو كان يأكل حيث وجد لتقلله وبراءته من التكلف العادي قال البلقيني : أو أكل داخل حانوت مستترا ونظر فيه غيره وهو الحق فيمن لا يليق به ذلك قلت أو كان صائما مثلا فقصد المبادرة بسنة الفطر لعذره ( وقبلة زوجة أو أمة ) في نحو فمها لا رأسها أو وضع يده [ ص: 225 ] على نحو صدرها ( بحضرة الناس ) أو أجنبي يسقطها بخلافه بحضرة جواريه أو زوجاته وتوقف البلقيني في تقبيلها بحضرة الناس أو الأجنبيات ليلة جلائها ولا وجه في التوقف في ذلك ؛ لأنه لا يفعله إلا من لا خلاق له كما في قوله .
( وإكثار حكايات مضحكة ) للحاضرين أو فعل خيالات كذلك بأن يصير ذلك عادة له بل جاء في الخبر الصحيح { من تكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها في النار سبعين خريفا } ما يفيد أنه حرام بل كبيرة لكن يتعين حمله على كلمة في الغير بباطل يضحك بها أعداءه ؛ لأن في ذلك من الإيذاء ما يعادل ما في كبائر كثيرة منه وقضية تقييد الإكثار بهذا أنه لا يعتبر فيما قبله وما بعده ونظر فيه ابن النقيب واعتمد البلقيني أنه لا بد من تكرار الكل تكرارا يدل على قلة المبالاة . واستدل له بالنص وتبعه الزركشي فقال ظاهر النص الذي جرى عليه العراقيون وغيرهم أن من وجد ما فيه بعض ما هو خلاف المروءة قبلت شهادته إلا أن يكون الأغلب عليه ذلك فترد شهادته لكن توقف شيخه الأذرعي في إطلاق اعتبار الإكثار في الكل ، ثم بحث اعتباره في نحو الأكل بسوق ومد الرجل بحضرة الناس بخلاف نحو قبلة حليلة بحضرة الناس في طريق واعترض بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قبل أمة خرجت له من السبي كان عتقها إبريق فضة بحضرة الناس ويرد بأنه مجتهد فلا يعترض بفعله على غيره وليس الكلام في الحرمة حتى يستدل بسكوت الباقين عليها بل في سقوط المروءة وسكوتهم لا دخل له فيه على أنه يحتمل أنه إنما فعله ليبين حل التمتع بالمسبية قبل الاستبراء فهي واقعة حال فعلية محتملة فلا دليل فيها أصلا فالأوجه ما فصله الأذرعي ( ولبس فقيه قباء وقلنسوة ) وهي ما يلبس على الرأس وحده وتاجر ثوب نحو جمال وهذا ثوب نحو قاض ونحو ذلك من كل ما يفعل ( حيث ) أي : بمحل ( لا يعتاد ) مثله فيه ( وإكباب على لعب الشطرنج ) أو فعله بنحو طريق [ ص: 226 ] وإن قل كما مر وينبغي أن حضوره فيه هذا التفصيل ( أو ) على ( غناء أو ) على ( سماعه ) أي : استماعه أو اتخاذ امرأة أو أمرد ليغني للناس ولو من غير إكباب ( وإدامة رقص ) أي : ممن يليق به ، أما غيره فيسقطها منه مرة كما هو ظاهر من قوله والأمر إلى آخره ومد الرجل بحضرة من يحتشمه بلا عذر ( يسقطها ) لمنافاة ذلك كله لها ، وبحث الرافعي أن اتخاذ الغناء المباح حرفة لا يسقطها إذا لاق به رده الزركشي بأن الشافعي نص على رد شهادته وجرى عليه الأصحاب ؛ لأنها حرفة دنيئة ويعد فاعلها في العرف ممن لا حياء له وبما قررت به كلامه علم أن الواو في عبارته بمعنى أو ( تنبيه ) .
اختلفوا في تعاطي خارم المروءة على أوجه : ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا وهو الأوجه ؛ لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ( والأمر فيه ) أي : جميع ما ذكر ( يختلف بالأشخاص والأحوال والأماكن ) ؛ لأن المدار على العرف كما مر فقد يستقبح من شخص وفي حال أو مكان ما لا يستقبح من غيره أو فيه ونازع الزركشي في التعميم المذكور بأنه لا يطهر في نحو القبلة وإكثار الضحك والشطرنج أي : فهذه تسلبها مطلقا وهو ظاهر ( تنبيه ) .
يؤخذ من قولهم ؛ لأن المدار إلى آخره أن من دخل بلدا فتزيا بزي أهلها لا تنخرم مروءته به ومحله إن سلم ما إذا تزيا بزي أهل حرفته ولم يعد أهل ذلك المحل أن تزييه بزي غير بلده مزر به مطلقا ( وحرفة دنيئة ) بالهمز ( كحجامة وكنس ودبغ ) وحياكة وحراسة وقيامة حمام وجزارة ( ممن لا تليق ) هذه ( به تسقطها ) لإشعارها بقلة مبالاته ( فإن اعتادها ) أي : لاقت به ( وكانت ) مباحة سواء أكانت ( حرفة أبيه ) أم لم تكن كما رجحه في الروضة فذكره هنا ؛ لأن الغالب في الولد أن يكون على حرفة أبيه ( فلا ) تسقطها ( في الأصح ) ؛ لأنه لا يعتبر بذلك ، أما ذو حرفة محرمة [ ص: 227 ] كمنجم ومصور فلا تقبل شهادتهم مطلقا قال الزركشي : ومما عمت به البلوى التكسب بالشهادة مع أن شركة الأبدان باطلة فيقدح في العدالة لا سيما إذا منعنا أخذ الأجرة على التحمل أو كان يأخذ ولا يكتب فإن نفوس شركائه لا تطيب بذلك قال بعض المتأخرين : وأسلم طريق فيه أن يشتري ورق شركة ويكتب ويقسم على قدر ما لكل من ثمن الورق فإن الشركة لا يشترط فيها التساوي في العمل . ا هـ .


