وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود ، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم . لكن لما كان المقتضي لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشر موجودا ، وبتقدير وجودهما يحصل الضر كالرزق مع الخوف ، صار يعظم في الشرع والطبع دفع المكروه ، أما في الشرع فبالتقوى ، فإن اسمها في الكتاب والسنة والإجماع عظيم ، والعاقبة لأهلها والثواب لهم . وأما في الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره ، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق . وذلك -والله أعلم- لأن النصر بلا رزق ينفع ، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها ، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع ، فإن الأسباب الناصرة تابعة . 
وفي هذا نظر ، فقد يقال : هما متقابلان ، فإن أهل النصر يحبون أهل  [ ص: 93 ] الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر ، فإن الرزق محبوب والنصر معظم . 
وقد يقال : بل النصر أعظم كما تقدم ، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضا ، وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هي أقوى من قوة الجذب ، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارض ، وأما الرازق فلا معارض له ، بل له موافق ، فالناصر محبوب معظم . 
وقد يقابل هذا بأن يقال : وثواب المحبوب مكروه أيضا ، والمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب ، ولا يسلم أن قوة الدفع أقوى ، بل قد يكون الجذب أقوى ، بل الجذب في الأصل أقوى ؛ لأنه المقصود بالقصد الأول ، والدفع خادم تابع له . وكما أن الدافع دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضي ، وترجيح المانع على المقتضي غير حق ، بل المقتضي أقوى بالقول المطلق ، فإنه لا بد منه في الوجود . وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض ، وقد لا يكون معارض . فالمقتضي والمحبة هو الأصل والعمدة في الحق الموجود والحق المقصود ، وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع . 
ولهذا كتب الله في الكتاب الموضوع عنده فوق العرش : «إن رحمتي تغلب غضبي »  . ولهذا كان الخير في أسماء الله وصفاته ، وأما الشر ففي الأفعال كقوله : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم  وأن  [ ص: 94 ] عذابي هو العذاب الأليم   [الحجر :49 - 50] ، وقوله : اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم   [المائدة :98] . 
يبقى أن يقال : فلم عظمت التقوى ؟ 
فيقال : لأنها هي تحفظ الفطرة وتمنع فسادها ، واحتاج العبد إلى رعايتها ، لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى تحريك . ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهي عن الإشراك  ، لأن الإقرار الفطري حاصل ، لوجود مقتضيه ، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه . ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض ، والجالبة لمنفعة بعضهم بعضا ، كما أوجب الله الزكاة النافعة وحرم الربا الضار . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					