الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فالصبر على ما يحصل باختيار العبد ، كصبر الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على ما يصيبه في ذلك من المكروه ، ولو تركه لم يصبه ، وصبر المطيع والممتنع عن المعصية إذا أوذي حتى يعصي ، فصبر على الأذى ولم يعص ، وصبر المؤمن على مفارقة محبوبه باختياره وعلى احتمال المكروه باختياره هذا الصبر أفضل من الصبر على المصائب التي لا حيلة له في دفعها ، كالمرض وموت الأقارب ، والجائحة التي تذهب بالمال ، فإن هذا إن يصبر وإلا فلا فائدة له في الجزع ، وهو لم يمكنه دفعها ، ولهذا يشترك الناس في هذه المصائب ، المؤمن والكافر . وأما تلك فإنما حصلت بسبب إيمانه وطاعته لله ورسوله ، فعلى ذلك أوذي ، فبإرادته واختياره حصل الأمر المكروه الذي يريد أن يصبر عليه . فهذا أزكى نفسا وأعظم محبة وصبرا على طاعته ، وأعظم تركا لمحبوباته وفعلا لمكروهاته لله . ولهذا كان من [ ص: 229 ] كمل بهذه الطريق أكمل ممن كمل بتلك من الأنبياء والصالحين ، فإن هذا حصل المقصود باختياره ، وذلك ابتلاه الله بما يحصل المقصود بغير اختياره .

وللنوعين أمثلة ، فصبر المصيبة مثل صبر يوسف على فراق أبيه وأهله ، واسترقاق الغير له ، وصبر الاختيار مثل صبره على الحبس لئلا يفعل الفاحشة ، فهذا الثاني كان أفضل له ، ولهذا نقل من الأول إليه ، فلما كمل بالثاني مكنه الله .

ومثال الأول صبر يعقوب عن ابنه يوسف ، ومثال الثاني صبر الخليل على أن يذبح ابنه ، فإن الخليل كان يذبح بكره ، لم يكن له غيره ، وأراد أن يذبحه باختياره ، فأسلم الأب والابن لله . وهذا أعظم من حال إسرائيل ، فإنه فرق بينه وبين يوسف بغير اختياره ، وصبر حتى رده الله عليه . والله تعالى يبتلي كل واحد بحسب حاله ، فالخليل أعظم وأفضل ، فاحتمل هذا البلاء الذي لا يحتمله غيره لو ابتلي به ، بخلاف صبر المصيبة ، فإن الصبر عليه موجود كثيرا . وكذلك صبر نوح وهود وصالح وموسى على تكذيب الكفار وأذاهم لهم هو من أعظم النوعين ، وكذلك صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه على أذى الكفار لهم بأنواع الأذى ، ثم صبرهم لما هاجروا على الجهاد .

هذا الصبر أفضل النوعين ، فلا جرم كان أهله أفضل الخلق عند الله ، وهذا لا يحتمله كثير من أولياء الله ، فيبتليه الله بمصائب يصبر عليها ليبلغ [ ص: 230 ] بذلك منزلته ، مثل ما ابتلي عثمان ، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبه . فبهذه البلوى نال منزلته ، إذ لم يكن معه من القوة ما يصبر صبر أبي بكر وعمر . وأبو بكر كان أصبر من عمر وأعظم يقينا ، فلهذا لم يحتج إلى مثل الشهادة التي حصلت لعمر ، وكذلك علي ثالث الشهداء ، أكمل الله بالشهادة أمره ، وكذلك الحسين وغيره ، كانت المصائب والشهادة في حقهم وحق أمثالهم مما أنعم الله به عليهم ، وبلغهم به من المنازل التي تناسب حالهم ، إذ كان الحسن والحسين لم يحصل لهما من الابتلاء ما حصل لأبيهما ، لأنهما ربيا في عز الإسلام ، فابتليا بما رفع الله به درجاتهم بحسب حالهم .

وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم [الطور :48 - 49] . وقال : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [القلم :48 - 50] . وقال : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف :35] . فأمره أن يصبر الصبر الاختياري كما صبر أولو العزم ، فيصبر لحكم ربه : الحكم الأمري بامتثال أمر ربه في تبليغ الرسالة ودعوة الخلق وبيان ما بعث به ، والحكم المقدر بأن يصبر على تكذيب المكذبين وافترائهم عليه وعداوتهم له . قال [ ص: 231 ] تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين [الفرقان :31] ، وقال : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [الأنعام :112] ، فلا يجزع ولا يغاضب ، فيحتاج أن يبتلى بما يصبر عليه صبر المصائب . فإن ذا النون : ذهب مغاضبا [الأنبياء :87] ، و أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات :40 - 44] . والمسبح يتناول من كان مسبحا قبل ذلك ، ومن كان مسبحا في بطن الحوت . فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [الصافات :145 - 148] . وهذا من أعظم البلوى ، وهو صلى الله عليه وسلم صبر على ما أصابه لما ألقي في بطن الحوت ، ودعا ربه واعترف بذنبه فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء :87] ، قال الله تعالى : فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء :88] . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى » ، و «من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب » .

التالي السابق


الخدمات العلمية