الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإنما المقصود هنا أن جانب الحسنات هو الراجح في خلقه وأمره ، أما في خلقه فقد نبه عليه . وأما في أمره وشرعه وثوابه وعقابه فمن وجوه :

أحدها : أن الحسنات يضاعف قدرها ، والسيئة لا يضاعف قدرها ، قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها [الأنعام :160] ، وقال تعالى في موضع آخر : [من جاء بالحسنة] فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [القصص :84] ، وقال تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله . . . [البقرة :261] .

والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متواترة ، مثل قوله : «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر » . وقوله : «صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صوم الدهر » . وقوله في الصلاة : «هي [ ص: 57 ] خمس ، وهي خمسون » . وقال : «كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها » . وفي حديث أبي هريرة مرفوعا : «أنه يجزي على الحسنة بألفي ألف حسنة » . وقال : «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى تكون مثل الجبل العظيم » . وهذا باب واسع .

الثاني : أن الجزاء في الحسنات بأفضل أنواعها وصفاتها ، بخلاف السيئات ، قال تعالى : ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [الزمر :35] ، وقال تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله [النور :38] ، وقال تعالى : أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة [الأحقاف :16] .

الثالث : أن الهم بالحسنة يثاب عليه ، والهم بالسيئة لا يعاقب عليه ، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 58 ]

«إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة واحدة ، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى أضعاف مضاعفة ، وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه ، فإن تركها لله كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة » .

وهذا في الهم الذي لا يكون إرادة جازمة ، فإنه هم قادر لا هم عاجز ، فلو صار إرادة مع القدرة لوجد الفعل . قال أحمد بن حنبل : الهم همان : هم خطرات وهم إصرار . فأما إذا أراد الفعل إرادة جازمة وإنما منعه العجز فهذا فيه حديث أبي كبشة الأنماري ، يقتضي أنه والفاعل سواء ، رواه أحمد والترمذي وصححه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعة الذين أعطي أحدهم علما ومالا ، فهو يعمل فيه بطاعة الله ، وآخر أعطي علما ولم يعط مالا ، فقال : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان ، قال : «فهما في الأجر سواء » . وآخر أعطي مالا لا علما ، فهو يعمل فيه بمعصية الله ، وآخر لم يعط علما ولا مالا ، فقال : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان ، قال : «فهما في الوزر سواء » .

فهذا في المريد الجازم العاجز عن الفعل ، كما في الحديث الصحيح : «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم » ، قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : «وهم بالمدينة ، حبسهم [ ص: 59 ] العذر » . ومثل هذا قوله : «المرء مع من أحب » .

فإن قيل : فقد قالوا في المعصية أن لا يقدر ، فإذا كان يعذب على الإرادة الجازمة فسواء قدر أو لم يقدر ، ولأن الرجل لو عزم أن يعمل مثل عمل النبيين والصديقين من الصحابة لم يجز مثلهم .

قلت : الإرادة الجازمة مشروطة بالعلم المفصل ، فما لم يتصوره الإنسان كما ينبغي لا يريده إرادة جازمة مع عدم القدرة ، ونحن لا يمكننا أن نتصور أحوال الأنبياء والسابقين من المهاجرين والأنصار .

التالي السابق


الخدمات العلمية