الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا كالمنافع في الإجارة ، هي مضمونة على المؤجر حتى يستوفي ، خلي بين المؤجر وبين المستأجر ، فإذا قبض المستأجر العين كان كقبض الشجرة التي عليها ثمرة ، ثم كلاهما إذا تلف قبل التمكن من الانتفاع فهي من ضمان البائع والمؤجر ، فالموجب لانتقال الضمان هو تمكن المشتري من الانتفاع ، وأما البيع فيجوز إذا أخذها ، لأنه عمل [ ص: 311 ] على التاجر بقبضها ، وحفظها كما يحفظ التاجر سلعته . فهذا المعنى إذا فهم انكشف به مقصود هذا الباب ، فإنه قد أشكل على كثير من الفقهاء أولي الألباب .

وبهذا يتبين أن أظهر القولين أنه يجوز أن يقول : «عجل لي وأضع عنك » ، كما نقل عن ابن عباس وغيره . وقد روي أن اليهود لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إجلاءهم من المدينة قالوا : إن لنا ديونا ، فقال : «يعجلونها لكم ، وضعوا عنهم البعض » . وهذا لأن صاحب المال هنا لم يربح ، كما إذا قال : أجعل المئة بمئة وعشرين إلى سنة ، بل نقص ماله لأجل تعجيل القبض ، والمدين ما ربح شيئا ، سقط عن ذمته . فهذا مقصوده استيفاء الدين لا بيع الدين ، ولهذا جازت الحوالة لأنها إيفاء .

ولهذا جوز مالك وأبو حنيفة وغيرهما بيع الدين الساقط بالساقط ، إذا كان لهذا على هذا دراهم ، وللآخر ذهب ، فقال : أسقط هذا بهذا ، فهذا يجوز في أظهر القولين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن بيع الدين بالدين ، ولكن روي أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ، مع ضعف الحديث . لكن بيع المؤخر بالمؤخر -مثل أن يسلم شيئا مؤخرا في الذمة في شيء في الذمة- لا يجوز باتفاقهم إذا كان كل منهما شغل ذمته بما للآخر ، من غير منفعة حصلت لأحدهما . والمقصود بالبيع النفع ، فهذا يكون أحدهما قد أكل مال الآخر بالباطل إذا قال : أسلمت إليك [ ص: 312 ] مئة درهم إلى سنة في وسق حنطة ولم يعطه شيئا ، فإن هذه المعاملة ليس فيها منفعة بل مضرة ، هذا يطلب هذا بالحنطة ، وهذا يطلب هذا بالدراهم ، ولم ينتفع واحد منهما ، بل أكل مال الآخر بالباطل من غير نفع نفعه به ، وهذا بخلاف بيع الساقط بالساقط ، فإن براءة ذمة كل منهما منفعة له .

وكذلك إذا قال : عجل لي وأضع عنك ، فالمعجل برئت ذمته بإقباض البعض ، فأبرأه من الباقي ، وهذا منفعة له ، بخلاف ما إذا زيد عليه في الدين ، فذاك يضره . وصاحب الدين انتفع بتعجيل القبض ، وكل منهما انتفع . وهنا المؤجل صار حالا بل ساقطا ، ليس مثله أن يبيعه دراهم إلى أجل بدراهم معجلة ، فإنه هنا أجل عليه ما لم يكن مؤجلا ، فشغل ذمته بغير منفعة ، وهذا ضرر ، وأمر الشارع عدل وحكمة ورحمة ، وهو إنما ينهى الناس عما يضرهم ، لا عما ينفعهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية