الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا كان في النعمة والكرامة هذان الوجهان فهي في باب الأمر والشرع نعمة يجب الشكر عليها ، وفي باب الحقيقة القدرية لم يكن لهذا الفاجر بها إلا فتنة ومحنة استوجب بمعصية الله فيها العذاب ، وهي في ظاهر الأمر قبل أن تعرف حقيقة الباطن ابتلاء وامتحان ، يمكن أن تكون من أسباب سعادته ، ويمكن أن تكون من أسباب شقاوته .

وظهر بهذا جانب الابتلاء بالمر ، فإن الله يبتلي بالحلو والمر ، كما قال : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [الأنبياء :35] ، وقال تعالى : وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون [الأعراف :168] ، فمن ابتلاه الله بالمر بالبأساء والضراء والبأس وقدر عليه رزقه ، فليس ذلك إهانة له ، بل هو ابتلاء ، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدا ، وإن عصاه في ذلك كان شقيا ، كما كان مثل ذلك سببا للسعادة في حق الأنبياء والمؤمنين ، وكان شقاء وسببا للشقاء في حق الكفار والفجار ، قال تعالى : والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [البقرة :177] . [ ص: 247 ]

وقال : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا [البقرة :214] ، وقال تعالى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم [التوبة :101] . وقال تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون [السجدة :21] . وقال تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [المؤمنون :76] .

وكما أن الحسنات وهي المسار الظاهرة التي يبتلى بها العبد تكون عن طاعات فعلها العبد ، كما قال تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [النساء :79] . وقال : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [آل عمران :165] ، وقال : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى :30] ، وقال : فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا [النساء :62] ، وقال : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور [الشورى :48] .

ثم تلك المسار التي هي ثواب طاعته إذا عصى الله فيها كانت سببا لعذابه ، فالمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها كانت سببا لسعادته . [ ص: 248 ]

فتدبر هذا لتعلم أن الأعمال بخواتيمها ، وأن ما ظاهره نعمة وهو لذة عاجلة قد يكون سببا للعذاب ، وما ظاهره عذاب وهو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم ، وما هو طاعة فيما يرى الناس قد يكون سببا لهلاك العبد برجوعه عن الطاعة إذا ابتلي في ثمرة الطاعة ، وما هو معصية فيما يرى الناس قد يكون سببا لسعادته بتوبة العبد منه وتصبره على المصيبة التي هي عقوبة ذلك الذنب .

فالأمر والنهي يتعلق بالشيء الحاصل ، فيؤمر العبد بالطاعة مطلقا ، وينهى عن المعصية مطلقا ، ويؤمر بالشكر على كل ما يتنعم به . وأما القضاء والقدر -وهو علم الله وكتابه وما طابق ذلك من مشيئته وخلقه- فهو باعتبار الحقيقة الآجلة ، فالأعمال بخواتيمها . والمنعم عليهم في الحقيقة هم الذين يموتون على الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية