الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد ذكرنا أنه ذكر من أول السورة : القيامة والنفس جميعا ، وقد أقسم بهما ، كما روى ابن المنذر عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير ، وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا أقسم بيوم القيامة قال : يقسم ربكم بما شاء من خلقه .

وعن الحسن البصري وسعيد أيضا : لا أقسم بيوم القيامة قال : أقسم .

وكذلك عن أبي عبيدة ، قال : مجازه : أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة .

وأما النفس اللوامة فقد فسرت بأنها التي تلام وأنها التي تلوم ، [ ص: 125 ] وذلك أن صيغة «فعال » قد تكون للنسبة والإضافة ، كما يقال : حداد ونجار وخباز وتمار ولبان وخياط ، أي صاحب كذا ، فإذا قيل : «لوام » بهذا الاعتبار كان معناه صاحب لوم كثير ، واللوم مصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى .

وقد تكون صيغة «فعال » توكيد فاعل ، كعلام وضراب وأكال ونحو ذلك ، ومنه النفس الأمارة .

ولفظ «الفاعل » أيضا يكون للنسبة ، كتامر ولابن ، وعلى هذا فما يقال : إن «فاعل » يكون بمعنى المفعول ، مثل ماء دافق [الطارق :6] ونحوه ، قد يقال : إنه من هذا الباب بمعنى النسبة والإضافة .

ففي تفسير ابن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قوله : اللوامة يقول : مذمومة .

ومن حديث شيبان عن قتادة : لا أقسم بيوم القيامة قال : يقسم الله بما شاء من خلقه ، ولا أقسم بالنفس اللوامة الفاجرة ، قال : يقسم بها .

وروى ابن المنذر من حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس : النفس اللوامة التي تلوم على الخير ، تقول : لو فعلت كذا وكذا . [ ص: 126 ]

وعن قرة بن خالد عن الحسن : ولا أقسم بالنفس اللوامة قال : إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ، ما أردت [بأكلتي] ، ما أردت بحديثي نفسي ، ولا تراه إلا يعاتبها ، وإن الفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه .

وعن ابن ثور عن ابن جريج عن مجاهد في قوله : بالنفس اللوامة قال : تندم على ما فات وتلوم عليه .

وبه عن ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك . وهذا صحيح متصل عنه موافق لرواية عكرمة ، وكل منهما أصح من رواية الوالبي ، فإنها منقطعة ، إذ الوالبي لم يسمع من ابن عباس .

قلت : وعلى هذا فاللوامة نحو الندامة والتوابة ، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وهذا لا ينافي القول الأول ، فإنها مذمومة قبل الندم بذمها وندمها ، ملومة على ذلك ، وهي ممدوحة بعد توبتها ولومها لنفسها . وفي مسند الإمام أحمد عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله يحب العبد المفتن التواب » . [ ص: 127 ]

وقد قيل : اللوم في الآخرة . روى ابن المنذر عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة قال : ما من أحد إلا وهو لائم نفسه يوم القيامة ، محسن لا يكون زاد في إحسانه ، ومسيء لا يكون أقلع عن سيئاته ، مما يرى من عظم عقوبة الله .

والآية قد تتناول هذا المعنى ، وهذه صفة لازمة للنفس ، فإنها لا بد أن تأتي ما تلام عليه ، ولا بد أن تلوم نفسها ، فإن لم يتب وإلا لام نفسه في الآخرة ، مع أن كل امرئ لا بد أن يلوم نفسه في الدنيا ولو لم يكن تائبا إلى الله ، إذ قد يفعل ما يندم عليه كما ندم ابن آدم القاتل على ترك دفن أخيه وإن لم يندم على قتله .

وكونها لوامة قبل كونها أمارة ، وكثير من المتصوفة ونحوهم يجعل هذا في حال وهذا في حال ، ويجعل الحال الثالثة أنها مطمئنة ، ويقول : النفوس ثلاثة بهذا الاعتبار : أمارة ولوامة ومطمئنة ، فالنفس المنتقلة إلى الحال الثالثة تتصف بالأوصاف الثلاثة ، وأما غيرها فقد لا تكون مطمئنة .

والتحقيق : أن كونها أمارة ليس بملام لها ، فإن الله إنما أخبر عمن أخبر عنه أنه قال : إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي [يوسف :53] ، فالنفس التي رحمها ربي ليست أمارة بالسوء ، فالأمارة خاص ، [ ص: 128 ] وكذلك المطمئنة خاص . وأما اللوامة فعند هؤلاء هي أيضا خاص ببعض النفوس . والتحقيق : أن اللوامة إذا كانت بمعنى التوابة فكل أحد تواب إلى الممات ، فتكون النفس أبدا لوامة ، وإذا لم تكن لوامة فهي تلام وتلوم في الآخرة وفي الدنيا أو الدين ، فكل نفس لوامة ، ولهذا جاءت معرفة بقوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة . [ ص: 129 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية