الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله سبحانه وتعالى : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين [الروم :49] ، فهي من أشكل ما أورد ، ومما أعضل على الناس فهمها .

فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير : إنه على التكرير المحض والتأكيد . [ ص: 355 ]

قال الزمخشري : « من قبله من باب التكرير والتأكيد ، كقوله تعالى : فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين [الحشر :17] ، ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك » .

هذا كلامه ، وقد اشتمل على دعويين باطلتين :

إحداهما : قوله : إنه من باب التكرير .

والثانية : تمثيله ذلك بقوله سبحانه وتعالى : فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها .

فإن «في » الأولى هي على حد قولك : أزيد في الدار ؟ أي : حاصل أو كائن .

وأما «في » [الثانية] فمعمولة للخلود ، وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون ، فلما اختلف العاملان ذكر الحرفان ، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه ، ومثل هذا لا يقال له تكرار .

ونظير هذا أن تقول : زيد في الدار نائم فيها ، أو ساكن فيها ، ونحوه مما هو جملتان مفيدتان لمعنيين . [ ص: 356 ]

وأما قوله تعالى : من قبل أن ينزل عليهم من قبله ، فليس من التكرار ، بل تحته معنى دقيق ، والمعنى فيه : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين ، فهاهنا قبليتان : قبلية لنزوله مطلقا ، وقبلية لذلك النزول المعين أن لا يكون متقدما على ذلك الوقت ، فيئسوا قبل نزوله يأسين : يأسا لعدمه ، ويأسا لتأخره عن وقته ، فقبل الأولى ظرف لليأس ، وقبل الثانية ظرف للمجيء والإنزال .

ففي هذه الآية ظرفان معمولان وفعلان مختلفان عاملان فيهما ، وهما الإنزال والإبلاس ، فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس ، والثاني متعلق بالنزول .

وتمثيل هذا أن تقول إذا كنت مؤملا للعطاء من شخص في وقت ، فتأخر عن ذلك الوقت ، ثم أتاك به : قد كنت يائسا من قبل أن تجيئني بهذا من قبل ، أي : أيست من قبل مجيئك بهذا قبل هذا الوقت .

فقبل الأولى ظرف لليأس ، وقبل الثانية ظرف للوقت ، كما أنك لو وضعت موضع قبل الثانية غيرها وجدتها غير متكرر ، فإذا قلت : قد كنت آيسا قبل أن تأتيني بهذا أمس ، أكان تكرارا ؟ فمن قبله كان كأمس . ولو قلت : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم قبل وقت نزوله لمبلسين ، لما كان تكرارا ؛ لاختلاف الآية . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية