الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ( 188 ) ) .

قوله تعالى : ( لا تحسبن الذين يفرحون ) : يقرأ بالياء على الغيبة ، وكذلك ( فلا تحسبنهم ) : بالياء وضم الباء . وفاعل الأول الذين يفرحون ، وأما مفعولاه فمحذوفان [ ص: 251 ] اكتفاء بمفعولي تحسبنهم ؛ لأن الفاعل فيهما واحد ، فالفعل الثاني تكرير للأول ، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول ، والفاء زائدة ، فليست للعطف ، ولا للجواب ، وقال بعضهم : بمفازة ، هو مفعول حسب الأول ، ومفعوله الثاني محذوف ، دل عليه مفعول حسب الثاني ؛ لأن التقدير : لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة ، وهم في " فلا تحسبنهم " هو أنفسهم ؛ أي : فلا يحسبن أنفسهم ، وأغنى بمفازة الذي هو مفعول الأول عن ذكره ثانيا لحسب الثاني .

وهذا وجه ضعيف متعسف ، عنه مندوحة بما ذكرنا في الوجه الأول .

ويقرأ بالتاء فيهما على الخطاب ، وبفتح الباء منهما ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والقول فيه أن الذين يفرحون هو المفعول الأول ، والثاني محذوف لدلالة مفعول حسب الثاني عليه ، وقيل : التقدير : لا تحسبن الذين يفرحون بمفازة ، وأغنى المفعول الثاني هنا عن ذكره لحسب الثاني ، وحسب الثاني مكرر ، أو بدل لما ذكرنا في القراءة بالياء فيهما ؛ لأن الفاعل فيهما واحد أيضا ، وهو النبي ، ويقرأ بالياء في الأول ، وبالتاء في الثاني ، ثم في التاء في الفعل الثاني وجهان : أحدهما : الفتح على أنه خطاب لواحد والضم على أنه لجماعة ، وعلى هذا يكون مفعولا الفعل الأول محذوفين ؛ لدلالة مفعولي الثاني عليهما ، والفاء زائدة أيضا ، والفعل الثاني ليس ببدل ولا مكرر ؛ لأن فاعله غير فاعل الأول ، والمفازة : مفعلة من الفوز . و ( من العذاب ) : متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة للمفازة ؛ لأن المفازة مكان ، والمكان لا يعمل ، ويجوز أن تكون المفازة مصدرا فتتعلق " من " به ، ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعل .

قال تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( 191 ) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ) ( 192 ) .

قوله تعالى : ( الذين يذكرون ) : في موضع جر نعتا " لأولي " أو في موضع نصب بإضمار أعني ، أو رفع على إضمار " هم " . ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوفا ؛ تقديره : يقولون ربنا . ( قياما وقعودا ) : حالان من ضمير الفاعل في " يذكرون " . ( وعلى جنوبهم ) : حال أيضا ، وحرف الجر يتعلق بمحذوف هو الحال في الأصل ؛ تقديره : ومضطجعين على جنوبهم . ( ويتفكرون ) : معطوف على يذكرون ، ويجوز أن يكون حالا [ ص: 252 ] أيضا ؛ أي : يذكرون الله متفكرين . ( باطلا ) : مفعول من أجله ، والباطل هنا فاعل بمعنى المصدر مثل العاقبة ، والعافية ؛ والمعنى ما خلقتهما عبثا . ويجوز أن يكون حالا تقديره : ما خلقت هذا خاليا عن حكمة ، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ؛ أي : خلقا باطلا .

فإن قيل : كيف قال هذا ، والسابق ذكر السماوات والأرض ، والإشارة إليها بهذه ففي ذلك ثلاثة أوجه : أحدها : أن الإشارة إلى الخلق المذكور في قوله : ( خلق السماوات ) ، وعلى هذا يجوز أن يكون الخلق مصدرا ، وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو هو في المعنى . والثاني : أن السماوات والأرض بمعنى الجمع ، فعادت الإشارة إليه . والثالث : أن يكون المعنى : ما خلقت هذا المذكور أو المخلوق . ( فقنا ) : دخلت الفاء لمعنى الجزاء ؛ فالتقدير : إذا نزهناك أو وحدناك فقنا . ( من تدخل النار ) : في موضع نصب بتدخل .

وأجاز قوم أن يكون منصوبا بفعل دل عليه جواب الشرط ، وهو " فقد أخزيته " .

وأجاز قوم أن يكون ( من ) مبتدأ ، والشرط وجوابه الخبر ، وعلى جميع الأوجه الكلام كله في موضع رفع خبر إن .

قال تعالى : ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) ( 193 ) .

قوله تعالى : ( ينادي ) : صفة لمناديا ، أو حال من الضمير في مناديا .

فإن قيل : ما الفائدة في ذكر الفعل مع دلالة الاسم الذي هو مناد عليه قيل : فيه ثلاثة أوجه : أحدها هو توكيد كما تقول قم قائما . والثاني : أنه وصل به ما حسن التكرير ، وهو قوله : " للإيمان " . والثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون سمع معروفا بالنداء يذكر ما ليس بنداء ، فلما قال ينادي ثبت أنهم سمعوا نداءه في تلك الحال .

ومفعول ينادي محذوف ؛ أي : نادى الناس : ( أن آمنوا ) : أن هنا بمعنى أي فيكون النداء قوله آمنوا ، ويجوز أن تكون أن المصدرية وصلت بالأمر فيكون التقدير : على هذا ينادي للإيمان بأن آمنوا : ( مع الأبرار ) : صفة للمفعول المحذوف تقديره : أبرارا مع الأبرار ، وأبرارا على هذا حال ، والأبرار جمع بر ، وأصله برر ، ككتف وأكتاف . ويجوز الإمالة في الأبرار تغليبا لكسرة الراء الثانية .

التالي السابق


الخدمات العلمية