الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( 48 ) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( 49 ) ) .

قوله تعالى : ( ويعلمه ) : يقرأ بالنون حملا على قوله : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) [ آل عمران : 44 ] ويقرأ بالياء حملا على " يبشرك " ، وموضعه حال معطوفة على ( وجيها ) .

( ورسولا ) : فيه وجهان : أحدهما : هو صفة مثل صبور وشكور ، فيكون حالا أيضا ; أو مفعولا به على تقدير : ويجعله رسولا ; وفعول هنا بمعنى مفعل ; أي مرسلا .

والثاني : أن يكون مصدرا ، كما قال الشاعر :

أبلغ أبا سلمى رسولا تروعه

.

فعلى هذا يجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، وأن يكون مفعولا معطوفا على الكتاب ; أي نعلمه رسالة ; فإلى على الوجهين تتعلق برسول ; لأنهما يعملان عمل الفعل . ويجوز أن يكون " إلى " نعتا لرسول فيتعلق بمحذوف .

( أني ) : في موضع الجملة ثلاثة أوجه : أحدها : جر ; أي بأني ، وذلك مذهب الخليل ، ولو ظهرت الباء لتعلقت برسول ، أو بمحذوف يكون صفة لرسول ; أي ناطقا بأني ، أو مخبرا .

[ ص: 213 ] والثاني : موضعها نصب على الموضع ، وهو مذهب سيبويه ، أو على تقدير : يذكر أني ، ويجوز أن يكون بدلا من رسول إذا جعلته مصدرا تقديره : ونعلمه أني قد جئتكم .

والثالث : موضعها رفع ; أي هو أني قد جئتكم إذا جعلت رسولا مصدرا أيضا .

( بآية ) : في موضع الحال ; أي محتجا بآية .

( من ربكم ) : يجوز أن يكون صفة لآية ، وأن يكون متعلقا بجئت .

( أني أخلق ) : يقرأ بفتح الهمزة ، وفي موضعه ثلاثة أوجه : أحدها : جر بدلا من آية . والثاني : رفع ; أي هي أني .

والثالث : أن يكون بدلا من " أني " الأولى .

ويقرأ بكسر الهمزة على الاستئناف ، أو على إضمار القول .

( كهيئة ) : الكاف في موضع نصب نعتا لمفعول محذوف ; أي هيئة كهيئة الطير ، والهيئة مصدر في معنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق .

وقيل : الهيئة اسم لحال الشيء وليست مصدرا ، والمصدر التهيؤ والتهيئة .

ويقرأ ( كهيئة الطير ) : على إلقاء حركة الهمزة على الياء وحذفها ، وقد ذكر في البقرة اشتقاق الطير وأحكامه ، والهاء في ( فيه ) : تعود على معنى الهيئة ; لأنها بمعنى المهيأ .

ويجوز أن تعود على الكاف ; لأنها اسم بمعنى مثل ، وأن تعود على الطير ، وأن تعود على المفعول المحذوف .

( فيكون ) : أي فيصير ، فيجوز أن تكون كان هنا التامة ; لأن معناها صار ، وصار بمعنى انتقل . ويجوز أن تكون الناقصة ، و " طائرا " على الأول حال ، وعلى الثاني خبر .

[ ص: 214 ] و ( بإذن الله ) : يتعلق بيكون . ( بما تأكلون ) : يجوز أن تكون بمعنى الذي ، ونكرة موصوفة ، ومصدرية ، وكذلك ما الأخرى . والأصل في : ( تدخرون ) : تذدخرون إلا أن الذال مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلم يجتمعا ; فأبدلت التاء دالا ; لأنها من مخرجها لتقرب من الذال ، ثم أبدلت الذال دالا ، وأدغمت ، ومن العرب من يقلب التاء ذالا ، ويدغم ، ويقرأ بتخفيف الذال ، وفتح الخاء ، وماضيه ذخر .

قال تعالى : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ( 50 ) ) .

قوله تعالى : ( ومصدقا ) : حال معطوفة على قوله : " بآية " ; أي جئتكم بآية ومصدقا " لما بين يدي " ولا يجوز أن يكون معطوفا على وجيها ; لأن ذلك يوجب أن يكون ومصدقا لما بين يديه على لفظ الغيبة : من التوراة في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف ، وهو بين . والعامل فيها الاستقرار أو نفس الظرف . ويجوز أن يكون حالا من " ما " فيكون العامل فيها مصدقا .

( ولأحل ) : هو معطوف على محذوف ; تقديره : لأخفف عنكم ، أو نحو ذلك .

( وجئتكم بآية ) : هذا تكرير للتوكيد ; لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها .

قال تعالى : ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ( 52 ) ) .

قوله تعالى : ( منهم الكفر ) : يجوز أن يتعلق " من " بأحس وأن يكون حالا من الكفر . ( أنصاري ) : هو جمع نصير كشريف وأشراف .

وقال قوم : هو جمع نصر ، وهو ضعيف ، إلا أن تقدر فيه حذف مضاف ; أي من صاحب نصري أو تجعله مصدرا وصف به . و ( إلى ) : في موضع الحال متعلقة بمحذوف وتقديره : من أنصاري مضافا إلى الله أو إلى أنصار الله . وقيل : هي بمعنى مع وليس بشيء فإن إلى لا تصلح أن تكون بمعنى مع ولا قياس يعضده .

( الحواريون ) : الجمهور على تشديد الياء ، وهو الأصل ; لأنها ياء النسبة .

ويقرأ بتخفيفها ; لأنه فر من تضعيف الياء ، وجعل ضمة الياء الباقية دليل على الأصل . كما قرأوا : ( يستهزئون ) : مع أن ضمة الياء بعد الكسرة مستثقل .

[ ص: 215 ] واشتقاق الكلمة من الحور ; وهو البياض ; وكان الحواريون يقصرون الثياب .

وقيل : اشتقاقه من حار يحور إذا رجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله ; وقيل : هو مشتق من نقاء القلب وخلوصه وصدقه .

قال تعالى : ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ( 53 ) ) .

قوله تعالى : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) : في الكلام حذف تقديره : مع الشاهدين لك بالوحدانية .

قال تعالى : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( 54 ) ) .

قوله تعالى : ( والله خير الماكرين ) : وضع الظاهر موضع المضمر تفخيما ، والأصل وهو خير الماكرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية