الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( 13 ) ) .

قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا ) : القائم مقام المفعول هو القول ويفسره آمنوا لأن الأمر والنهي قول .

قوله : ( كما آمن الناس ) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ; أي إيمانا مثل إيمان الناس ; ومثله : كما آمن السفهاء .

قوله : ( السفهاء ألا إنهم ) في هاتين الهمزتين أربعة أوجه : أحدها : تحقيقهما وهو الأصل .

والثاني : تحقيق الأولى ، وقلب الثانية واوا خالصة فرارا من توالي الهمزتين ، وجعلت الثانية واوا ; لانضمام الأولى ، والثالث : تليين الأولى ، وهو جعلها بين الهمزة وبين الواو ، وتحقيق الثانية . والرابع : كذلك إلا أن الثانية واو .

[ ص: 32 ] ولا يجوز جعل الثانية بين الهمزة والواو ; لأن ذلك تقريب لها من الألف ; والألف لا يقع بعد الضمة والكسرة وأجازه قوم .

قال تعالى : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( 14 ) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ( 15 ) ) .

قوله تعالى : ( لقوا الذين آمنوا ) أصله لقيوا ، فأسكنت الياء لثقل الضمة عليها ، ثم حذفت لسكونها وسكون الواو بعدها ، وحركت القاف بالضم تبعا للواو .

وقيل : نقلت ضمة الياء إلى القاف بعد تسكينها ، ثم حذفت .

وقرأ ابن السميفع : لاقوا بألف وفتح القاف وضم الواو ، وإنما فتحت القاف وضمت الواو لما نذكره في قوله : ( اشتروا الضلالة ) .

قوله : ( خلوا إلى ) : يقرأ بتحقيق الهمزة ، وهو الأصل .

ويقرأ بإلقاء حركة الهمزة على الواو ، وحذف الهمزة فتصير الواو مكسورة بكسرة الهمزة ، وأصل خلوا خلووا ، فقلبت الواو الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذفت لئلا يلتقي ساكنان ، وبقيت الفتحة تدل على الألف المحذوفة .

قوله : ( إنا معكم ) : الأصل : إننا ، فحذفت النون الوسطى على القول الصحيح ، كما حذفت في إن إذا خففت ، كقوله تعالى : ( وإن كل لما جميع ) [ يس : 32 ] ومعكم ظرف قائم مقام الخبر ; أي كائنون معكم .

قوله تعالى : ( مستهزئون ) : يقرأ بتحقيق الهمزة وهو الأصل وبقلبها ياء مضمومة ، لانكسار ما قبلها ومنهم من يحذف الياء لشبهها بالياء الأصلية في مثل قولك : يرمون ويضم الزاي ، وكذلك الخلاف في تليين همزة يستهزئ بهم .

قوله تعالى : ( يعمهون ) : هو حال من الهاء والميم في يمدهم .

[ ص: 33 ] و ( في طغيانهم ) متعلق بـ ( يمدهم ) أيضا ، وإن شئت بـ ( يعمهون ) . ولا يجوز أن تجعلهما حالين من يمدهم ; لأن العامل الواحد لا يعمل في حالين .

قال تعالى : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ( 16 ) ) .

قوله تعالى : ( اشتروا الضلالة ) : الأصل اشتريوا ، فقلبت الياء ألفا ، ثم حذفت الألف لئلا يلتقي ساكنان ، الألف والواو . فإن قلت : فالواو هنا متحركة ؟ . قيل : حركتها عارضة ، فلم يعتد بها وفتحة الراء دليل على الألف المحذوفة .

وقيل : سكنت الياء لثقل الضمة عليها ، ثم حذفت لئلا يلتقي ساكنان .

وإنما حركت الواو بالضم دون غيره ; ليفرق بين واو الجمع والواو الأصلية في نحو قوله : لو استطعنا ، وقيل ضمت لأن الضمة هنا أخف من الكسرة ; لأنها من جنس الواو .

وقيل : حركت بحركة الياء المحذوفة ، وقيل ضمت ; لأنها ضمير فاعل ، فهي مثل التاء في قمت ، وقيل : هي للجمع فهي مثل نحن ، وقد همزها قوم ، شبهوها بالواو المضمومة ضما لازما نحو : أثؤب .

ومنهم من يفتحها إيثارا للتخفيف ، ومنهم من يكسرها على الأصل في التقاء الساكنين ، ومنهم من يختلسها فيحذفها لالتقاء الساكنين وهو ضعيف ; لأن قبلها فتحة ، والفتحة لا تدل عليها .

قال تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( 17 ) ) .

قوله تعالى : ( مثلهم كمثل ) : ابتداء وخبر ، والكاف يجوز أن يكون حرف جر فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون اسما بمعنى مثل فلا يتعلق بشيء .

قوله : ( الذي استوقد ) : الذي هاهنا مفرد في اللفظ ، والمعنى على الجمع ، بدليل قوله : ( ( ذهب الله بنورهم ) ) وما بعده . وفي وقوع المفرد هنا موقع الجمع وجهان : أحدهما : هو جنس ، مثل : من وما ، فيعود الضمير إليه تارة بلفظ المفرد ، وتارة بلفظ الجمع . والثاني : أنه أراد الذين فحذفت النون لطول الكلام بالصلة ، ومثله : ( والذي جاء بالصدق وصدق به ) ثم قال : ( أولئك هم المتقون ) [ الزمر : 33 ] .

[ ص: 34 ] واستوقد بمعنى أوقد ، مثل استقر بمعنى قر ; وقيل : استوقد استدعى الإيقاد .

قوله تعالى : ( فلما أضاءت ) : لما هاهنا اسم ، وهي ظرف زمان ، وكذا في كل موضع وقع بعدها الماضي ، وكان لها جواب ، والعامل فيها جوابها ، مثل : إذا .

وأضاءت : متعد ، فيكون ( ( ما ) ) على هذا مفعولا به ; وقيل أضاء لازم ، يقال : ضاءت النار وأضاءت بمعنى ، فعلى هذا يكون ( ( ما ) ) ظرفا ، وفي ( ( ما ) ) ثلاثة أوجه : أحدها : هي بمعنى الذي .

والثاني : هي نكرة موصوفة ; أي مكانا حوله . والثالث هي زائدة .

قوله : ( ذهب الله بنورهم ) [ البقرة : 17 ] الباء هنا معدية للفعل ، كتعدية الهمزة له ، والتقدير : أذهب الله نورهم . ومثله في القرآن كثير .

وقد تأتي الباء في مثل هذا للحال ; كقولك : ذهبت بزيد ، أي ذهبت ومعي زيد .

قوله تعالى : ( وتركهم في ظلمات ) : تركهم هاهنا يتعدى إلى مفعولين ; لأن المعنى صيرهم ، وليس المراد به الترك الذي هو الإهمال ، فعلى هذا يجوز أن يكون المفعول الثاني في ظلمات ، فلا يتعلق الجار بمحذوف ، ويكون ( ( لا يبصرون ) ) حالا .

ويجوز أن يكون لا يبصرون هو المفعول الثاني ، وفي ظلمات ظرف يتعلق بتركهم ، أو بـ ( ( يبصرون ) ) ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في يبصرون ، أو من المفعول الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية