الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود ، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم . لكن لما كان المقتضي لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشر موجودا ، وبتقدير وجودهما يحصل الضر كالرزق مع الخوف ، صار يعظم في الشرع والطبع دفع المكروه ، أما في الشرع فبالتقوى ، فإن اسمها في الكتاب والسنة والإجماع عظيم ، والعاقبة لأهلها والثواب لهم . وأما في الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره ، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق . وذلك -والله أعلم- لأن النصر بلا رزق ينفع ، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها ، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع ، فإن الأسباب الناصرة تابعة .

وفي هذا نظر ، فقد يقال : هما متقابلان ، فإن أهل النصر يحبون أهل [ ص: 93 ] الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر ، فإن الرزق محبوب والنصر معظم .

وقد يقال : بل النصر أعظم كما تقدم ، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضا ، وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هي أقوى من قوة الجذب ، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارض ، وأما الرازق فلا معارض له ، بل له موافق ، فالناصر محبوب معظم .

وقد يقابل هذا بأن يقال : وثواب المحبوب مكروه أيضا ، والمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب ، ولا يسلم أن قوة الدفع أقوى ، بل قد يكون الجذب أقوى ، بل الجذب في الأصل أقوى ؛ لأنه المقصود بالقصد الأول ، والدفع خادم تابع له . وكما أن الدافع دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضي ، وترجيح المانع على المقتضي غير حق ، بل المقتضي أقوى بالقول المطلق ، فإنه لا بد منه في الوجود . وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض ، وقد لا يكون معارض . فالمقتضي والمحبة هو الأصل والعمدة في الحق الموجود والحق المقصود ، وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع .

ولهذا كتب الله في الكتاب الموضوع عنده فوق العرش : «إن رحمتي تغلب غضبي » . ولهذا كان الخير في أسماء الله وصفاته ، وأما الشر ففي الأفعال كقوله : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن [ ص: 94 ] عذابي هو العذاب الأليم [الحجر :49 - 50] ، وقوله : اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم [المائدة :98] .

يبقى أن يقال : فلم عظمت التقوى ؟

فيقال : لأنها هي تحفظ الفطرة وتمنع فسادها ، واحتاج العبد إلى رعايتها ، لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى تحريك . ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهي عن الإشراك ، لأن الإقرار الفطري حاصل ، لوجود مقتضيه ، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه . ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض ، والجالبة لمنفعة بعضهم بعضا ، كما أوجب الله الزكاة النافعة وحرم الربا الضار .

التالي السابق


الخدمات العلمية