الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المؤمن فهو مع قدرته له من الإرادة الصالحة والعلوم النافعة [ ص: 253 ] ما يوجب طمأنينة قلبه وانشراح صدره ، بما يفعله من الأعمال الصالحة ، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه . وهو مع عجزه أيضا له من أنواع الإرادات الصالحة والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفه ، وكل هذا محسوس مجرب . وإنما يقع غلط أكثر الناس لأنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها ، ولم يذق لذات أهل البر ولم يحسها ، ولكن أكثر الناس جهال لا يسمعون ولا يعقلون .

وهذا الجهل لعدم شهود حقيقة الإيمان ووجود حلاوته وذوق طعمه انضم إليه أيضا جهل كثير من المتكلمين في العلم بحقيقة ما في أمر الله من المصلحة والمنفعة ، وما في خلقه أيضا لعبده المؤمن من المنفعة والمصلحة ، فاجتمع الجهل بما أخبر الله به من خلقه وأمره ، وبما أشهده الله عباده من موجوده ، فكان هذا الجهل مع ما في النفوس من الظلم مانعا للنفوس عن عظيم نعمة الله وكرامته ورضوانه ، موقعا لها في بأسه وعذابه وسخطه .

وذلك أن الناس لما خاضوا في مسألة القدر ، ولم يخلق الله ولم يأمر ؟ ونحو ذلك ، بغير هدى من الله الذي أنزله إليهم ، فرقوا دينهم وكانوا شيعا :

فزعم فريق منهم أنه لا يخلق أحدا من الأشخاص إلا لأجل مصلحة المخلوق ، ولا يأمره إلا لأن أمره مصلحة له أيضا ، وإنما العبد [ ص: 254 ] هو صرف عن نفسه مصلحة نفسه ، وفعل مفسدة نفسه ، بغير قدرة الرب وبغير مشيئته . وهم إنما قصدوا بها تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن الظلم والعبث ، ووصفه بالحكمة والعدل والإحسان ، لكن سلبوه علمه وقدرته وكتابه وخلقه ونفوذ مشيئته وعمومها ، فقال قوم منهم : إنه لم يعلم فلم يكتب ما يكون من العباد حتى فعلوه . وقال آخرون : بل علم ذلك ، وعلم أنهم لا يطيعونه ولا يفعلون إلا ما يضرهم ، ومع هذا فقصد تعريفهم بالخلق والأمر للمنفعة الخالصة الدائمة .

فقال لهم الناس : من علم أن مقصوده من الخير لا يكون ، وقد سعى في حصوله بمنتهى قدرته ، كان من أجهل الفاعلين وأسفههم ، فنزهوه عن قليل من السفه بالتزام ما هو أكبر منه ، وزعموا أنه لا يقدر إلا على ما فعل بهم ، فسلبوه قدرته .

فرد على هؤلاء طائفة من أهل الإثبات ، فأثبتوا عموم قدرته وعموم مشيئته وخلقه وعلمه القديم ، وكل هذا خير موافق للكتاب والسنة ، وهذا من تمام الإيمان بالقدر ، بعلم الله القديم ومشيئته وخلقه لكل شيء وقدرته . لكن ضموا إلى ذلك أشياء ليست من السنة ، فإنه من السنة أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأنه يأمر العباد بطاعته ، ومع هذا فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [يونس :25] . [ ص: 255 ]

فزعموا مع ذلك أنه يخلق الخلق لا لحكمة في خلقهم ، ولا لرحمة لهم ، بل قد يكون خلقهم ليضرهم كلهم . وهذا عندهم حكمة ، فلم ينزهوه عما نزه نفسه عنه من الظلم ، حيث أخبر أنه إنما يجزي الناس بأعمالهم ، وأنه ولا تزر وازرة وزر أخرى [الأنعام :164] . وأنه ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [طه :112] .

بل زعموا أن كل مقدور عليه فليس بظلم ، مثل تعذيب الأنبياء والرسل وتكريم الكفار والمنافقين ، وغير ذلك مما نزه الله نفسه عنه ، فلم يكن الظلم الذي نزه الله عنه نفسه حقيقة عند هؤلاء ، إذ كل ما يمكن ويقدر عليه فليس بظلم . فقوله تعالى : وما الله يريد ظلما للعباد [غافر :31] عندهم بمنزلة قوله : لا يريد ما لا يكون ممكنا مقدورا عليه ، وهو عندهم لا يقدر على الظلم حتى يكون تاركا له .

وزعموا أنه قد يأمر العباد بما لا يكون مصلحة لهم ولا لواحد منهم ، لا يكون الأمر مصلحة ، ولا يكون فعل المأمور به مصلحة ، بل قد يأمرهم بما إن فعلوه كان مضرة لهم ، وإن لم يفعلوه عاقبهم ، فيكون العبد فيما يأمره به بين ضررين : ضرر إن أطاع ، وضرر إن عصى ، ومن كان كذلك كان أمر العباد مضرة لهم لا مصلحة لهم .

وقالوا : يأمر بما يشاء ، وأنكروا أن يكون في الأحكام الشرعية من العلل المناسبة للأحكام ، من جلب المنافع ودفع المضار ما هي الشريعة ممتلئة به ، حتى كان منهم من دفع علل الأحكام بالكلية ، ومنهم من قال : [ ص: 256 ]

العلل مجرد علامات ودلالات على الحكم ، لا أنها أمور تناسب الحكم وتلائمه .

وهم يجوزون مع هذا أن لا يكون للعبد ثواب ومنفعة في فعل المأمور به ، لكن لما جاءت الشريعة بالوعد قالوا : هو موعود بالثواب الذي وعد به ، وربما قالوا : إنه في الآخرة فقط ، وأما الفعل المأمور به فقد لا يكون مصلحة للعباد ولا منفعة لهم بحال ، فلا يكون فيه تنعم لهم ولا لذة بحال ، بل قد تكون مضرة لهم ومفسدة في حقهم ، ليس فيه إلا ما يؤلمهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية