الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

327 - عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم ، أبو عبد الله :

أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر ، قال : أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال : أخبرنا ابن حيوية ، قال : حدثنا ابن معاوية ، قال : حدثنا ابن الفهم ، قال : حدثنا محمد بن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، قال : قال عمرو بن العاص :

كنت للإسلام مجانبا معاندا ، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت ، ثم حضرت أحدا فنجوت ، ثم حضرت الخندق فنجوت ، فقلت في نفسي : كم أوضع ؟ والله ليظهرن محمد على قريش فلم أحضر الحديبية ولا صلحها ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ، ورجعت قريش إلى مكة ، فجعلت أقول : يدخل محمد إلى مكة بأصحابه ، ما مكة لنا بمنزل ولا الطائف ، وما شيء خير من الخروج ، وأنا بعد نأي عن الإسلام ، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم ، فقدمت مكة ، فجمعت رجالا من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ، ويقدموني فيما نابهم ، فقلت لهم : كيف أنا فيكم ؟ قالوا : ذو رأينا ومدد وهننا مع يمن نقيبة وبركة أمر ، قلت : تعلمن والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا ، وإني قد رأيت رأيا ، قالوا : ما هو ؟ قلت : نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن يظهر [محمد ] كنا عند النجاشي تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد ، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا ، قالوا : هذا الرأي ، قلت فاجمعوا ما تهدون له ، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم ، فجمعنا أدما كثيرا ثم خرجنا فقدمنا على النجاشي فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتاب كتبه إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فدخل عليه ثم خرج من عنده ، فقلت لأصحابي : هذا عمرو بن أمية الضمري ، ولو قد دخلت على النجاشي سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه ، فإذا فعلت ذلك سررت قريشا وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد .

[ ص: 197 ] فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع ، فقال : مرحبا بصديقي ، أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قلت : نعم أيها الملك ، أهديت لك أدما كثيرا ، ثم قربته إليه فأعجبه ، وفرق منه أشياء بين بطارقته ، وأمر بسائره فأدخل في موضع ، فلما رأيت طيبة نفسه قلت : أيها الملك ، إني رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل هو عدونا ، وقد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله ، فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره ، وابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي وأصابني من الذل ما لو شقت الأرض دخلت فيها فرقا منه ، فقلت له : أيها الملك ، لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك إياه . قال : فاستحيا وقال : يا عمرو ، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، والذي كان يأتي عيسى أعطيكه لتقتله ؟ قال عمرو : وغير الله قلبي عما كنت عليه وقلت في نفسي : عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت ، قلت : وتشهد أيها الملك بهذا ؟ قال : نعم أشهد به عند الله يا عمرو فأطعه واتبعه ، والله إنه لعلى الحق ، وليظهرن على كل من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، قلت : أفتبايعني له على الإسلام ، قال : نعم ، فبسط يده فبايعته على الإسلام ، ودعى لي بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابا وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فألقيتها ثم خرجت إلى أصحابي ، فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك ، وقالوا : هل أدركت من صاحبك ما أردت ؟ فقلت لهم : كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت : أعود إليه ، قالوا : الرأي ما رأيت ، وفارقتهم وكأني أعمد لحاجة ، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت تدفع ، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية ، فخرجت بها ومعي نفقة واتبعت بعيرا وخرجت أريد المدينة حتى أتيت على مر الظهران ، ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة إذا رجلان قد سبقا في بعير كبير يريدان منزلا وأحدهما داخل في خيمة والآخر قائم يمسك الراحلتين ، فنظرت فإذا خالد بن الوليد ، فقلت : أبا سليمان ، قال : نعم ، قلت : أين تريد ؟ قال : محمدا ، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم ، والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها ، قلت : والله وأنا قد أردت محمدا وأردت الإسلام .

وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة ، فما أنسى قول رجل لقينا ببئر أبي عتبة يصيح : يا رباح يا رباح ، فتفاءلنا بقوله [ ص: 198 ] وسررنا ، ثم نظر إلينا فسمعته يقول : قد أعطيت مكة المقادة بعد هذين ، فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد ، ثم ولى مدبرا إلى المسجد سريعا ، فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا ، وكان كما ظننت ، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعا حتى طلعنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا ، فتقدم خالد بن الوليد فبايع ، ثم تقدم عثمان فبايع ، ثم تقدمت ، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه ، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يغفر لي ما تأخر ، فقال : "إن الإسلام يجب ما كان قبله ، والهجرة تجب ما كان قبلها " . فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحدا من أصحابي في أمر حربه من حيث أسلمنا ، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة ، ولقد كنت عند عمر بن الخطاب بتلك الحال
.

قال عبد الحميد : أخبرني أبي : أنهم قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان .

قال علماء السير : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في وجوه منها غزاة ذات السلاسل ، وأمده فيها بثمانين منهم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة ، ومنها إلى صنم هذيل ، وهو سواع فكسره ، وإلى بني فزارة فصدقهم .

واستعمله أبو بكر على الشام وأمده بخالد بن الوليد فكان أمير الناس يوم أجنادين ويوم فحل ، وفي حصار دمشق حتى فتحت . وولاه عمر وعثمان ، ثم مال إلى معاوية وكان أحد الحكمين على ما سبق ذكره .

ذكر وفاته : كان عند الموت يقول : كأن على عنقي جبال رضوى ، وكأن في جوفي الشوك ، وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة ، وأعتق كل مملوك له .

أخبرنا ابن ناصر ، قال : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال : أخبرنا محمد بن الفتح ، قال : أخبرنا أبو الحسين ابن أخي ميمي ، قال : أخبرنا جعفر بن محمد الخواص ، قال : أخبرنا ابن مسروق ، قال : حدثني عمر بن محمد ، قال : حدثني محمد بن دينار ، قال : حدثنا محمد بن عبيد أبو عبد الرحمن العتبي ، قال : حدثني أبي ، قال :

[ ص: 199 ] دخل ابن عباس على عمرو بن العاص يعوده ، فقال : كيف تجدك يا أبا عبد الله ؟ قال : أجدني قد أفسدت ديني بدنياي ، أصلحت من دنياي قليلا وأفسدت من آخرتي كثيرا ، فوددت أن الذي أفسدت هو الذي أصلحت ، أن الذي أصلحت هو الذي أفسدت ، ولو كان ينجيني ترك ما في يدي لتركته ، ولو كنت أدرك ما أطلب طلبت ، فقد صرت كالمنجنيق بين السماء والأرض ، لا يرقى بيد ، ولا يرقى برجل ، فهو متحير بين الحياة والموت ، ويأمل أن يكون في الموت راحته ، ويخاف مما قدمت يده ، فعظني يا ابن أخي ، فقال : يا أبا عبد الله ، إن شئت أن تبكي بكيت ، فلست تدري متى يقع الأمر وأنت تأمرنا بالرحيل وأنت مقيم ، ولو دعوت دعوة لا تلقي صولها إلى يوم القيامة . قال : فغضب عمرو وقال : تؤنسني من نفسي وتؤنسني من رحمة ربي ، اللهم خذ مني حتى ترضى ، فقال ابن عباس : هيهات يا عبد الله سلفت جديدا وتعطي خلقا ، فقال عمرو : ما لي ولك يا ابن عباس ، ما سرحت كلمة إلى ربي إلا أخذت بغيها ، ثم تمثل عمرو :


كم عائد رجلا وليس يعوده إلا لينظر هل يراه يفرق

أخبرنا أبو الحسن الأنصاري ، قال : أخبرنا علي بن عبد الله النيسابوري ، قال : أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، قال : أخبرنا ابن عمرويه ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد شعبان ، قال : أخبرنا مسلم بن الحجاج ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا الضحاك - يعني أبا عاصم - قال : حدثنا حيوة بن شريح ، قال : حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، قال : أخبرنا ابن شماسة المهري ، قال :

حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول : يا أبتاه ، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، أما بشرك بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما تعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إني قد كنت على أطباق ثلاث : لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلي من أن يكون استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل [ ص: 200 ] النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يدي ، فقال : ما لك يا عمرو ، قلت : أردت أن أشترط ، قال : ماذا ؟ قلت : أن يغفر لي ، قال : "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا أشياء بعد ، فلست أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .

توفي عمرو بن العاص في هذه السنة بمصر وهو واليها ، وقيل : في سنة ثلاث وأربعين ، وكان قد عمل على مصر لعمر رضي الله عنه أربع سنين ، ولعثمان أربع سنين ، ولمعاوية سنتين إلا شهرا .

[ ص: 201 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية